الرواية اللوقانيّة عن يوحنا المعمدان وسفر إشعيا

بيترالخواجة

<<<< Jesus >>>>
عضو مبارك
إنضم
20 نوفمبر 2006
المشاركات
872
مستوى التفاعل
12
النقاط
0
الرواية اللوقانيّة عن يوحنا المعمدان (لو 3: 1-22) وسفر إشعياء النبي
أبعاد النبوءة والحكمة في لوقا - أعمال


د. دانيال عيّوش

جامعة البلمند




ترد الرواية عن يوحنا المعمدان، في سياق السرد اللوقانيّ، كوحدة معنوية تامة ومتجانسة تبتدئ بمقدمة تأريخيّة (لو 3: 1-2) وتنتهي بخبر معمودية يسوع (لو 3: 21-22). وفي الآيتين الأولَيَين يطالعنا أسلوبٌ أدبي فصيح، حيث نجد افتتاحيةً رسميةً لدعوة يوحنا النبي ودلالةً على محطة جديدة في سياق ما كتبه لوقا إلى هذه النقطة. أما ابتداءً من لو 3: 23 و حتى لو 7: 18-35، فيخرج يوحنا المعمدان من إطارالسرد اللوقاني، ويصبح يسوع، من خلال عرض سلالة أجداده (لو 3: 23-38)، الشخص الأساسي في هذا الكتاب.



ما يخبره الكاتب في لو 3: 1-22 هو قصة العلاقة القائمة بين الله وشعبه، هذه العلاقة التي تتعرض للنجاح أو الفشل حسب الموقف الذي يتخذه منها الإنسان. تنجح العلاقة، من جهة، لأن الجماهير والعشارين والجنود يقبلون دعوة يوحنا إلى التوبة (في اليونانية: ****noia) في لو 3: 7-14. ولكن نقرأ، من جهة أخرى، أنّ هيرودس، صاحب السلطة الدنيوية، يسبّب فشلاً معينًا في العلاقة نفسها عندما يقطع بشكل جذريّ ومفاجئ عمل المعمدان التبشيريّ في لو 3: 20.



بعدما استلم يوحنا إعلانًا إلهيًا (لو 3: 2)، أخذ يبشّر شعب الله بالأحداث الخلاصية المزمع إتمامها، وبضرورة السلوك الملائم للتوبة كي يخلصوا. ويربط لوقا الأنجيلي في الآيات 4-6 عمل يوحنا هذا بسفر إشعياء النبي لكي يضع ما يخبره عن المعمدان على الخط التاريخي عينه الذي يتعامل فيه الله مع شعبه بحسب إشعياء.



يعالج هذا المقال وظيفة سفر إشعياء النبي ومعناه داخل كتابات لوقا البشير. وهذا من خلال مقارنة الأساليب والمحتويات بين لو 3: 1-22 وإش1: 1-31. كما أننا سندرس مقدمة سفر إشعياء الثاني التي يقتبس لوقا منها بعض الآيات في لو 3: 4-6، ويستخدم مصطلحاتها التقنية في لو 3: 18. وسنشير أخيرًا إلى نقاط التشابه ونقاط الخلاف بين لوقا وإشعياء، التي تعكس في الشكل والمحتوى العلاقة القائمة بين النبوءة والحكمة في لاهوت لوقا الرؤيوي الحكمي.





ميزات النصوص الإشعيائية


الإفتتاحية (إش 1: 1-31)



تتميّز إفتتاحية سفر إشعياء عن إفتتاحيات مُعظم الأسفار النبوية الأخرى بأنها لا تحتوي، مثلها، على رواية دعوة النبي،[1] بل تقتصر، بعد مقدمة قصيرة (إش 1: 1)، على نقل الكلام النبويّ. سبب هذه الظاهرة هو الفترة الزمنية الطويلة التي دُوّن فيها هذا السفر؛ إذ أن الاصحاح الأول الذي كُتب بعد السبي، أي في فترة متأخرة جدًا، لا يقصد أن يدوّن تقريرًا تاريخيًا لأعمال إشعياء النبي، بل أن يلخّص المفاهيم الأساسية المطروحة في السفر كله بالشكل الذي نعرفه اليوم.[2] يجد القارئ في إشعياء 1 خلاصةً تمهيدية للأوجه اللاهوتية المتعددة والخاصة بهذا الكتاب.



بالرغم من خصوصية هذا الاصحاح المشار إليها أعلاه، نجد في الآية الأولى من سفر إشعياء بداية تشبه بدايات الأسفار النبوية الأخرى، وهي مقدمة تأريخية تربط زمن أقوال النبي وأعماله بزمن أصحاب السلطة المعاصرين له[3]. ثم يستدعي إشعياء السماءَ والأرض لكي تكونا شاهدتين تمثلان الكون بكامله (إش 1: 2أ) ويأخذ يعظ بأقوال الرب التي تتكون في الأول من توبيخ طويل للشعب (إش1: 2ب-15) يفضح فيه النبي وضع الشعب المُحزن والخاطئ (إش 1: 2ب-9) ويشير إلى ذبائحهم وعبادتهم المرائية والفارغة (إش 1: 10-15). تلحق التوبيخ هذا دعوةٌ إلى الاعتناء بالمساكين والمظلومين كمقابل للخطايا والاعمال الرديئة التي يرتكبها الشعب (إش 1: 16-17). إنّ الدعوة هذه إلى التوبة هي المرافق الطبيعي للكلام المهدِّد السائد في هذا الإصحاح لأن الفرصة الوحيدة للخلاص أمام الأيام الأخيرة الآتية هي التعامل مع الفقراء والمظلومين بحق وبرّ والاعتناء الملتزم بهم (إش 1: 10-20). أضفْ إلى ذلك أن التوبة المقصودة هنا هي مفهوم سائد في معظم النصوص الكتابية يدل على العودة إلى السلوك في الحياة بحسب ارادة الله وهي تعود إلى الكلمة العبرانية (شُوب) المترجمة في اليونانية بـ (****noia) أو (epistrophe).[4] وسيتبنّى لوقا هذا المفهوم للتوبة في عرضه لخطاب المعمدان وتعليمه كما سنرى فيما بعد.



ويتابع النبي خطابه في الآيات 18-20 بلهجة هجومية في حال استمرار المستمعين في خطيئتهم، وبلهجة الرجاء في حال اتّخذوا طريق التوبة. ويبتدئ من الآية 21 قسم جديد في سياق الكلام حيث ينحب النبي على برّ أورشليم المفقود والفساد السائد بدلاً منه (إش 1: 21-23). ولذلك يسمي الله شعبه عدوًّا وينذرهم بالدمار لكي يعود البرّ يحكم في داخل أسوار أورشليم (إش 1: 24-28). وهذا يعني ان الله سيضع حدًّا للأعمال الظالمة وفي الآن نفسه سيفتدي ويخلّص أبراره المساكين.



وينتهي الأصحاح الأول من إشعياء بالتشديد على كون الرب ديّانًا في مجيئه (إش 1: 29-31). وهذه الفكرة هي من أهم العناصر في البشارة الإشعيائية.



مطلع سفر إشعياء الثاني (إش 40: 1-11)



إنّ سفر إشعياء الثاني المسمَّى أيضًا سفر تعزية اسرائيل والمدوّن في الاصحاحات 40-55 هو أوّل سفر نبوي يقتصر كلامه على "أخبار سارّة".[5] ولذلك يستشهد الأنجيليون الأربعة بمقاطع وأفكار عديدة من هذا الكتاب، وخصوصًا عند الكلام حول آلام المسيح.[6]

في الأصحاحات الأولى من إشعياء الثاني يُنظَر إلى الله كخالق سائر الكون (إش 40: 12-31) وإلى عمله الخلاصيّ كفداء أو كفِدية يدفعها الله لاسترجاع شعبه من العبودية إلى أسوار ملكوته (إش 43: 1) .[7] وسيأثر هذان المفهومان الإشعيائيان بالتشديد على فكر لوقا اللاهوتي في لو 3: 1-22.



علاوةً على ذلك، نرى في هذه المقدمة ثلاثة مصطلحات لاهوتية أساسية يستعملها لوقا بالتزام عند استعانته بلاهوت إشعياء في لو 3: 18 وهي التالية: الفعلان "يعزي" من إش 40: 1 و"يبشر" من إش 40: 9 والاسم "شعب" من إش 40: 1.[8]



يعلن الله لشعبه أنّه سينهي آلامهم (إش 40: 1ي) وسيعتني بهم كما يهتم الراعي بخير قطيعه (إش 40: 11). وأما الشعب، فعليهم أن يستعدّوا لمجيء الرب المجيد، ولذلك ترافق الإعلان الخلاصيّ دعوةٌ إلى التوبة (إش 40، 4-8).



إن رجاء الديانة اليهودية من بعد الجلاء بأنّ الله سيتدخل بشخصه في الأزمنة الأخيرة ليخلص شعبه، يستند إلى كلام إش 40: 1-11. وسيشير المعمدان في القسم الثالث من خطابه (لو 3: 15-18) إلى أنّ المسيح الآتي سيحقق هذا الرجاء.





استعمال لوقا للنصوص الإشعيائية



بنية لو 3: 1-21 وفحواه على ضوء إش 1: 1-31



تشترك أخبار لوقا حول المعمدان، ببعض النقاط الجوهرية، مع إفتتاحية سفر إشعياء النبي. ونجد أولا أن لكلا المقطعين وظيفة أدبية واحدة تحتوي على تقديم مجموعة مختارة من الأقوال التي يُنسبها التقليد إلى هذا النبي أو ذاك. وليس من مقصد هذه النصوص تدوين تاريخ دقيق لأعمال النبيين، بل التعريف بإشعياء الكتابيّ وبيوحنا اللوقانيّ أنّهما حاملا الإعلان الإلهي والمبشران به.



بعد مقدمة تأريخية قصيرة تضع ظهور الكلمة الإلهية في حقبة معينة من التاريخ البشريّ، يبدأ الكلام النبويّ بتوبيخ قصده إنهاض الشعب إلى التوبة (لو 3: 7-9؛ إش 1: 2ب-15 و21-23) لأنّ تكاثر الخطايا والآثام يُبعِد إسرائيل عن الله ويهدّد وجوده على الأرض. وكما يسمّي إشعياء الشعب المتمرّد "الشعب الثقيل الاثم" و"نسل فاعلي الشر" (إش 1: 4)، هكذا يقول المعمدان لمستمعيه "يا أولاد الأفاعي" في لو 3: 7 ويرفض كلّ إمكان الهرب من "الغضب الآتي". ويكمّل يوحنا الطرح الإشعيائي معلنًا أن لا وجود للجماعة دون الحفاظ على الإيمان المستقيم (إش 1: 4-9) الذي يُعرَف في أعمال البرّ والحق (إش 1: 4. 16ي. 21. 23).



لذلك تلي التوبيخ مجموعة من الإرشادات السلوكيّة الإجتماعيّة بشكل أفعال الأمر والنهي (لو 3: 10-14؛ إش 1:16-17). هكذا وبعد الدعوة إلى التوبة، يُلحّ كلٌّ من يوحنا المعمدان وإشعياء على ضرورة إنصاف المظلومين؛ إذ بهذه الطريقة يُعبَّر بالفعل عن تغيير جذري، قد يفتح للتائبين أبواب الرحمة والخلاص (إش 1: 19).[9] إنّ مبشّرَيّ الأحداث الخلاصيّة يدعوان المستمعِين إلى مساعدة القريب في كل حاجة مادّيّة (لو 3: 10-14) وخصوصًا إلى تحقيق البرّ والحقّ إزاء كل مهمَّشٍ ومظلوم (إش 1: 17).



وأما خاتمة العظتين، فهي تحتوي عند يوحنا وعند إشعياء على إعلان الدينونة الآتية (لو 3: 15-17؛ إش 1: 24-31) وتحمل الدينونة في هذا الإعلان معنى مزدوجًا، إذ هي تعني خلاصًا للأبرار وهلاكًا للأشرار. "اليد" تظهر في النصَّين (لو 3: 17؛ إش 1:25) كمصطلح تقنيّ، وترمز إلى سيادة الله و مسيحه معًا.[10]


ويبقى أنّ الآيات لو 3: 3-6 لا شيء يعادلها في الإصحاح الأول من إشعياء، لأنها لا تقصد ربط أعمال المعمدان بالتقليد الإشعيائي بواسطة الأساليب البلاغية فحسب، بل بواسطة إستشهاد من كتاب النبي يعطي مدخلاً جوهريًّا لفهم بشارة المعمدان. وهذا ما سندرسه في المقطع التالي.



خلاص الله لكل البشر


فيما استوحى كاتب الإنجيل من الأصحاح الأول من سفر إشعياء بنيةَ رواية المعمدان ووظيفتها الأدبية، نجد أن لاهوت إشعياء الثاني (إش 40-55) يضع الأطر التي تؤسّس مواقف يوحنا السابق وأعماله النبوية. لذلك يقدم لوقا الخطاب المعمداني بإستشهاد من إش 40: 3-5 ويختمه بجملة مليئة من المصطلحات الخاصة بإشعياء الثاني في لو 3: 18.



نقرأ في لو 3: 2ي أنّ "كلمة الله كانت على يوحنا" وأنّه، تاليًا، خرج ليبشّرَ الشعب. ونقرأ أدناه أنّ هذه الأحداث تجري "كما هو مكتوب في سفر أقوال إشعياء النبي." ولا شكّ أنّ هذا القول يهدف إلى ربط السرد اللوقاني في 3: 1-22 بلبّ إيمان اليهودية الأولى ورجائها بالمسيح الأخروي.



يختار لوقا من بين نبوءات إشعياء الثاني المميَّزة بخبر الرجاء، تمامًا تلك الآيات التي بالرغم من تركيزها على ضرورة التوبة ( في اليونانية: ****noia) تعطي قرّاءها وعدًا قاطعًا: "ويبصر كلّ بشرٍ خلاصَ الله" (لو 3: 6؛ إش 40: 5).[12] ويختم لوقا الأستشهاد من إشعياء بهذه الجملة لكي يؤكّد أنّ الإله الذي يعلن نفسه في كلام المعمدان هو الله الذي لا إله إلا هو، رب العالم بأسره، الذي يستطيع، تاليًا، أنْ يعلن نهائيًّا خلاصه لكل البشر. ونجد في هذا الوعد بالخلاص ما يوازن تهديدات الدينونة في لو 3: 7. 9. 17. يجمع لو 3: 1-22 بتدقيق بين خبر الدينونة وخبر الخلاص لكي يعكس بصورة واضحة الإزدواجية "خلاص - دمار" التي تكمن في تدخّل الله النهائيّ.



أما الدعوة إلى التوبة، إحدى الخصائص الرئيسية في كلام السابق، فتأتي كنتيجة ضرورية أمام الأحداث المعلَنة، وهي أيضًا تعود إلى التقليد النبويّ عامة وإلى نصوص إشعياء الثاني بشكل خاص. إنّ إعداد الطريق لمجيء الرب الذي يتحدث عنه صُوَريًّا إش 40: 3ي، يتحقق حسب لوقا في كرازة المعمدان بالتوبة. حسب إش 40: 1-11 يجب على يوحنا أن يُلزمَ مستمعيه بأعمال التوبة لأنّ مجيء الرب دون التوبة لا يعزّي الشعب، إذْ ليس هناك من شعب الله إن لم يعمل أحد على حسب كلمة الرب وهذا ما يؤكده يوحنا عندما يقول "كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيّدًا تقطع وتلقى في النار" (لو 3: 9ب).



بالرغم من النبرة التهديديّة القائمة في هذا القول، يؤكد لوقا أن يوحنا كان يكرز معزّيًا الشعب (لو 3: 18). ويمكن هذا لأنّ قسمًا من الجموع الآتية إليه قد سمع الدعوة إلى التوبة الصادرة من لدن الله والتي كان يبشر بها المعمدان. هكذا تتكوّن جماعة جديدة مبنية على بشارة يوحنا وحدها. ويقول إش 40: 10ي أن جماعة كهذه يحملها الرب في حضنه وكراعٍ بذراعه يجمعها.



ليس من قبيل الصدفة، إذًا، أن يستعمل لوقا الفعلين "عزّى" (في اليونانية: parakaleo) و"بشّر" (في اليونانية: evangelizo) عندما يتحدث عن أعمال السابق في لو 3: 18. وهذا لأنّ سفر إشعياء الثاني يتميز باستعمال هذين المصطلحين التقنيَين للتعبير عن الخلاص بفرح ورجاء.[13]

أما المصطلح "شعب" (في اليونانية: laos) الذي له وقع كبير في الترجمة السبعينية (2000 مرّة تقريبًا) والوارد في افتتاحية سفر تعزية إسرائيل، "عزّوا عزّوا شعبي يقول إلهكم" (إش 40: 1)، فيستعمله لوقا في الإنجيل وسفر الأعمال للإشارة إلى الجماعة المؤمنة والمنتظرة الخلاص.[14] في لو 3: 1-18 يُوصف المستمعون أولاً بلفظ الشمولي "جموع" (في اليونانية: ochloi) وهو لفظ خالٍ من أي طابع خاص(لو 3: 7. 10).[15] ثم تصير هذه الجموع شعبًا عندما تعترف بابن زخريا كحامل الكلمة الألهية الحقيقية وتطرح عليه ثلاث مرّات السؤال عينه: "وماذا نفعل نحن؟" (لو 3: 10. 12. 14).[16]



إنّ نصوص إشعياء الثاني وخصوصًا مطلع سفره (إش 40: 1-11) توحي مفهوم لوقا الإنجيلي للوظيفة النبوية التي يتممها يوحنا كحامل معرفة إعلانية. وتحتوي هذه المعرفة على خبر تدخل الله لتأسيس مملكته بالبر والحق. وإنطلاقًا من هذه الخلفية النبوية يطبق لوقا خصائص حكميّة على شخص المعمدان، تجعل من يوحنا شخصية مميزة تجمع في أعمالها وخطابها بين عناصر النبوءة والحكمة على حدّ سواء.



العناصر الحكميّة لدى المعمدان اللوقانيّ


كما أشرنا في مستهلّ المقال، يروي لو 3: 1-22 بشكل خاص محاولة اتّصال بين الله و شعبه، تنجح مع البعض وتفشل مع البعض الآخر. من هنا يعرض لوقا أعمال يوحنا السابق كأعمال متكلم عامّ أكثر من أعمال معمدان.[17]



فنرى أن الرواية في لو 3: 1-22 تحتوي بشكل شبه حصريّ على أفعال القول (راجع لو 3: 3. 7. 11. 13. 14. 16. 18) واللقب الوحيد الذي يحمله يوحنا في هذا المشهد هو لقب "المعلّم" (في اليونانية: didascalos) في لو 3: 12.[18] لذلك يعرّف لوقا في أع 13: 24ي بشخصية المعمدان كمعلمٍ "يسبق فيكرز" (آية 24) و"يقول" (آية 25).



تأخذ شخصية المعمدان في خطابه السلوكيّ (لو 3: 10-14) أبعاد الشيخ الحكيم كما يعرفه أدب اليهودية الأولى والأدب الربانيّ.[19] يتحدث يوحنا هنا عن السلوك على شكل الخطاب التعليمي، وهو فنّ أدبيّ معروف في الكتابات اليهودية الهلينستية.[20] السؤال السلوكيّ النموذجي "ماذا نفعل نحن؟" (لو 3: 10. 12. 14) يعبر في لوقا – أعمال عن إستعداد التلميذ للتوبة، ويأتي كمقدمة تلك الإرشادات العملية التي تحتاج إليها الجماعة المؤمنة لكي تحسن التصرف في الحياة اليومية، وإزاء الأحداث الخلاصية الآتية. ونجد أبعادًا حكمية حتى في بنية الأجوبة، التي تعود إلى أقصر أسلوب بلاغيّ في الأدب الحكميّ ألا وهو أسلوب الحضّ (في الألمانية: Mahnwort).[21]



وفي ختام هذا المقطع نذكّر، من جهة، بأن الشكل الأدبي السائد في حديث المعمدان السلوكي هو الخطاب التعليمي الذي يلقيه الشيخ الحكيم جوابًا على أسئلة تلاميذه[22] ولذلك ينادونه بِـ "يا معلم" في لو 3: 12؛ وأما من جهة أخرى، فنذكّر بأن مسائل الحياة اليومية هي أهمّ موضوع يعالجه الكلام الحكمي.[23] هكذا نستطيع القول بأن الصورة اللوقانية ليوحنا المعمدان، إلى جانب تأثّرها بالأدب النبوي، تعود أيضًا إلى الأدب الحكميّ السائد في زمن اليهودية الأولى وزمن حياة يسوع الناصريّ.[24]





يوحنا المعمدان كحامل معرفة رؤيوية - حكمية



نستنتج من هذه الدراسة أن لو 3: 1-22 يقدم دمجًا منسجمًا من النبوءة والحكمة. لدينا، من جهة، التوبيخ والإرشاد اللذان يصحّحان فكر الشعب وتصرّفه اليومي؛ ومن جهة أخرى يأتي المتكلم وهو ينتظر برجاء تدخل الله الأخير كدينونة وخلاص في آنٍ واحد. يخطّط لوقا صورة المعمدان مطبقًا نموذج المعلم الحكيم الذي يعلّم علنًا تحقيق رجاء إسرائيل والتصرف الملائم له.[25]



ليس فقط يوحنا يقوم بدور حامل المعرفة في السرد اللوقانيّ. هناك شخصان أساسيان، يسوع المسيح وبولس الرسول، اللذان يشاركان يوحنا في خصائص حاملي المعرفة، أي في ما يلي:[26]



· رسالتهم تنبع عن إعلان إلهيّ (راجع لو 3: 2. 21ي؛ 4: 16-21؛ أع 9: 1-20).

· هم "يبشرون" (لو 3: 18؛ 4: 18؛ أع 13: 32) و"يعزّون" (لو 3: 18؛ أع 2: 40؛ 11: 23؛ 13: 15) "شعب الله" (لو 3: 18؛ 20: 1. 9؛ 21: 37ي؛ أع 13: 15).

· كلامهم يحتوي على خبر تدخّل الله الأخروي لخلاص الشعب (لو 3: 17؛ 4: 16-21؛ أع 28: 28).

· عليهم أن يتحملوا، بسبب كلامهم الهجوميّ، ردود فعل إعتدائية من قبل المستمعين (لو 3: 19ي؛ 22: 47-53؛ أع 21: 27-36).



يقوم يوحنا ويسوع وبولس، في الكتابات اللوقانية، بوظيفة مَن يحمل معرفة خلاصية ويمكّن الاتصال بين الله وشعبه إسرائيل. هم يَدمجون في خطابهم رجاء إسرائيل الأخرويّ بإرشادات حكمية لحسن السلوك في الحياة (راجع لو 3: 15-17؛ 6: 20-26؛ أع 20: 18-27 مع المقابل لها في لو 3: 10-14؛ 6: 27-28؛ أع 20: 28-35).



إن دورهم في السرد كمستلمي معرفة إعلانيّة ومبشّرين بها، يساوي دور أبطال الأدب الرؤيوي الحكمي،[27] أحد التيارات الفكرية النابعة عن اليهودية الأولى والذي ترك أثرًا عميقًا في نصوص العهد الجديد عامةً[28] وفي لاهوت لوقا خاصةً.[29]



يروي لوقا الإنجيلي رواية أصل المعرفة المسيحية، لكي يعرف القارئ "اليقين" من الكلام الذي عُلّم به (لو 1: 4).[30] وفي هذا الإطار يظهر المعمدان "معِدًّا لطريق المسيح". إنّ دور المعمدان كمُعِدّ للطريق يتثبّت في الرواية بواسطة الإستشهاد من إش 40: 3-5، ويأتي بشكل سلسلة مبرمجة من الأقوال على نسق إش 1: 1-31. نجد بين هذه الأقوال ما يقصد تحريك المستمع إلى معاملة الآخرين بحق وعدالة، مستعملا أساليب بلاغية خاصة بالأدب الحكميّ.



يعتبر المعمدان أن إرشاداته السلوكية تقود إلى "ثمار التوبة" (لو 3: 8) لأنّها تعلّم كيف يُطبَّق الموقف الملائم للأزمة الأخروية الآتية على التعاطي اليوميّ مع القريب.



بالرغم من إيجازه، نرى في هذا المشهد (لو 3: 1-22) صورة لاهوتية شاملة للمعمدان، تُعلِن الأحداث الأخروية والإرشادات السلوكية الملائمة لها في نفس الخطاب. يستند هذا المقطع من إنجيل لوقا على سفر إشعياء النبي ليس فقط في الأسلوب والبنية بل أيضًا في المضمون وخصوصًا بما يتعلق بتعليم الرجاء بمسيح أخروي . عندما يستشهد من سفر إشعياء ويستعمل مصطلحاته اللاهوتية، يحدّد لوقا الخلفية الدينية لروايته ويسمح ليوحنا أن يتكلم بكفاءة وسلطة حول خطة إله إسرائيل لأجل خلاص كل البشر.



يخبر لوقا، من جهة، المحطات الأساسية في حياة يوحنا السابق، ويختار من جهة أخرى مجموعة نموذجية من أقوال المعمدان. هكذا تصل إلينا رواية عن يوحنا المعمدان تعكس صورته كمعلم رؤيويّ حكميّ يعلّم تلاميذه حكمة جديدة في التفكير والسلوك اللذين ينبعان عن تلك المعرفة التي أعلن الله فيها تدخلَه الأخير والنهائي.



من منشورات جامعة البلمند

_________________

القصة كلها تبدأ في الناصرة حيث بين الأرض و السماء موعد ففي حنية بيت يوسف عذراء طاهرة جالسة في الهدئة، ملكة قامت عن يمين العلي متشحةً بثوب مذهب مغشّى، تحمل في يدها مغزلاً تهيئ به نسيج لباس اقترعوا عليه أمام الخشبة..تبدأ القصة حينما كان هناك موعد بين الأرض و السماء فصارت الأرض سماء


++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++
+++++++++++++++++++++++++++
++++++++++++++++
++++++
+++
+
 
أعلى