Jesus Son 261
ابن الملك
الاعتراضات على سفر نشيد الأناشيد والرد عليهـا - القمص زكريا بطرس
مقدمة
الواقع إن الاقتراب من سفر نشيد الأناشيد، يشبه الاقتراب من الشجرة المشتعلة، بالنار المقدسة، التي رآها موسى النبي، حيث قال له الرب: "يا موسى! اخلع نعل رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة" (أع7: 37) .
وهذا ما ذُكِر في القرآن أيضا: "أن ياموسى اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى" (سورة طه20: 12) .
والواقع أن الإنسان يلبس نعلا في قدميه للحماية من شوك الأرض الملعونة، التي قال الرب عنها لآدم "ملعونةٌ الأرضُ بسببك ... وشوكا وحسكا تنبت لك" (تك3: 17و18) .
ولكن إذا ما ترك الإنسان الأرض الملعونة بشوكها، وبدأ يقف على الأرض المقدسة بطهرها، وجب عليه أن يخلع ذلك النعل، من جهة، من أجل قداسة المكان، تماما مثلما يحدث في الدخول إلى أماكن العبادة. ومن جهة أخرى، ليترك لحواسه أن تستشعر قداسة هذه الأرض المباركة، دون ما عائق. فخلع النعلين يشير إلى التحرر من العوامل المادية التي تقيد انطلاقة الروح في هذا الطريق الروحي. ومن هنا نستطيع أن نفهم ما قصده السيد المسيح بقوله: "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يوحنا 6 : 63)، وكذلك ما قاله بولس الرسول: "الانسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة، أما الروحي فيحكم في كل شيء .." (1كورنثوس 2: 14) ولعل هذا هو ما دعى السيد المسيح أن يحذر قائلا: "لا ترموا درركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأقدامها، وتلتفت فتمزقكم" (متى7: 6) .
لهذا فعندما نقترب من سفر نشيد الأناشيد، بسمو معانيه ورموزه، علينا أن نخلع نعل المادية، والأفكار الشهوانية، ونتقدم في قداسة الفكر ونقاوة القلب، لأن: "كلَّ شيء طاهر للطاهرين، أما للنجسين وغير المؤمنين، فليس شيء طاهر، بل قد تنجس ذهنهم أيضا وضميرهم" (تيطس1: 15) .
وأحب أن أطمئن إخوانَنا المسلمين أن علماء الكتاب المقدس سواء في اليهودية أو في المسيحية منذ أقدم العصور، لم تكن تنقصهم الفطنة التي يدَّعيها المتطرفون من المسلمين، بخصوص ما يقولونه عن سفر نشيد الأناشيد، فلو كانوا قد وجدوا أن في هذا السفر شُبْهَةَ خزي، كما يدعي المتطرفون، لما كانوا قد وضعوه ضمن الأسفار المقدسة، في مجامع ضمت صفوة العلماء والفهماء والروحانيين!! أم أن علماء الديانتين كانوا أغبياء إلى هذا الحد، فلم ينتبهوا إلى ما اكتشفه متطرفو الدين الإسلامي!!! وكيف يدَّعى هؤلاء المتطرفون ذلك؟ بينما نبي الإسلام ذاته، لم يعترض على هذا السفر أو على غيره من الأسفار المقدسة، بل على العكس شهد للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد قائلا: "قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه" (القصص28: 49) .
ومهما ادعى المتفلسفون بأكذوبة تحريف الإنجيل والتوراة، فليس من المعقول أن يأتي المحرِّفون بكتاب معيب كما يظن المدعون، بل كان من الأولى بهم أن يغيروا ما يثير الشبهات التي ينتقدها غير الفاهمين. ولكن إصرارَ رجال الديانتين، دون ما اتفاق بينهما، على الاحتفاظ بهذا السفر النفيس ضمن الكتب المقدسة الموحى بها، يجعلنا نقف موقف طالبي العلم والمعرفة، لندرك المعاني السامية المتضمنة فيه. وسوف يشمل حديثنا في هذا الكتاب الأمور التالية:
1ـ سفر النشيد والشعر الصوفي الروحي.
2ـ الألفاظ المعترض عليها في سفر النشيد.
3ـ سفر النشيد وجنة الخلد، مقارنة موضوعية.
من الرب نسأل أن يستخدم هذه الكلمات ليزيل كل التخوفات من قدسية كلماته، وليفتح الطريق أمام القلوب لتقبل نعمته والدخول فى عشرة حقيقية معه.
---------------------------------------
الباب الأول - سفر نشيد الأناشيد - والشعر الصوفى الروحى
ـ هل كُتب النشيد بلغة مُبتذلة ؟
ـ ماهو التصوف ؟
ـ العلاقة بين التصوف وسفر نشيد الأناشيد.
ـ العشق الإلهى والإبتداع فى الدين.
الفصل الأول - هل كُتب نشيد الأناشيد بلغة مُبتذلة ؟
الواقع أن أسلوب نشيد الأناشيد ليس هو عشقا فاضحا كما يقول المعترضون، ولكنه عشق مقدس. وربما تندهش من هذا التعبير: (العشق المقدس)! ولكن لكي يزول اندهاشك يا عزيزي دعني أذكرك بشخصية لها مقامها المكرم بين النساء المسلمات وهي رابعة العدوية. هل تعرف لقبها الذي تشتهر به؟ اقرأ ما كتبه عنها الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بدوي أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس، وقد دَعَى كتابه عنها بإسم "شهيدة العشق الإلهي" وعندها ستفهم لقب عروس النشيد المتيمة بالعشق الإلهي.
وإن أردت أن تعرف المزيد عن [العشق الإلهي أو الحب الإلهي] في الإسلام اقرأ عن المذاهب الصوفية أو مدراس الحب الإلهي، وإليك بعض تلك الكتب:
1ـ كتاب "المذاهب الصوفية ومدارسها" تأليف الأستاذ عبد الحكيم عبد الغني قاسم، مكتبة مدبولي بالقاهرة.
2ـ كتاب "التصوف الإسلامي" للدكتور عبد الله الشرقاوي كلية دار العلوم بالقاهرة.
3ـ كتاب "الأدب الصوفي في مصر [ابن الصباغ]" للدكتور على صافي حسين نشر دار المعارف بالقاهرة.
4ـ كتاب " الكنز في المسائل الصوفية" للأستاذ صلاح الدين التجاني، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب.
5ـ كتاب "الحلاج ـ الأعمال الكاملة" تأليف قاسم محمد عباس، نشر مؤسسة رياض الريس للكتب والنشر بلبنان.
6ـ كتاب "شهيدة العشق الإلهي" للأستاذ الدكتور عبد الرحمن بدوي، نشر مكتبة النهضة المصرية.
7ـ كتاب "رابعة العدوية في محراب الحب الإلهي" تأليف الأستاذ مأمون غريب، نشر دار غريب للطباعة والنشر بالقاهرة.
8ـ "الموسوعة العربية الميسرة" إشراف الأستاذ محمد شفيق غربال [تحت كلمة: التصوف، تحت اسم كل رائد من رواد التصوف] .
وتذخر هذه الكتب بالحديث عن الحب الإلهي أو العشق الإلهي، الذي يماثل كلمات نشيد الأناشيد، وليس في ذلك ابتذال، أو عشق فاضح. وإليك عينة بسيطة مما قالته رابعة العدوية:
أُحِبُّكَ حبين، حبُّ الهـوى وحـبٌّ لأنـك أهـلٌ لـذاكا
فأما الذي هو حب الهوى فشغـلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهـل لـه فكشفك للحجـب حتى أراكا
قارن هذا بما أنشدت به عروس نشيد الأناشيد قائلة:
اسمـك دهن مُهـراق لذلك أحبتـك العـذارى
اجذبني وراءك فنجري أدخلني الملك إلى حجاله
نبتهـج ونفـرح بك ... بـالحـق يحبـونك
تلاحظ في كلا النصين نغمة الحب الراقي المعبرة عن العشق الإلهي المقدس، وليس العشق الفاضح المنجَّس، كما يدعون.
الفصل الثانى - ماهو التصوف ؟
كلمة تصوف مأخوذة من الصوف، والمقصود بذلك هو اللباس المصنوع من الصوف، الذي كان يلبسه المتقشفون الناسكون: وهم الرهبان في المسيحية، والزاهدون الصوفيون في الإسلام.
وبخصوص هؤلاء الصوفيين في المسيحية والإسلام فقد جاء عنهم في الموسوعة العربية الميسرة (ص525) الآتي:
[التصوف مسيحيا كان أو إسلاميا هو مراتب، يبدأ المتصوف فيه بتطهير نفسه من الدنس والأقذار والأهواء والنزعات المنحرفة، بحيث يصبح أهلا للتجلي. وما التجلي إلا شعور يزيد من محبة الله والقرب منه، وكلما قوي هذا الشعور اطَّرَد رقيُّ النفسِ حتى تحس بوجود الله في قرارها، بل باتحادها به اتحادا كليا ...] (الموسوعة ص527) .
هذا هو كلام الموسوعة العربية الميسرة عن التصوف الروحي، وهو العبادة المبنية على الحب المقدس أو العشق الإلهي. ويتضح هذا الاتجاه في كتابات الصوفيين ودواوينهم الشعرية التي تتشابه كثيرا مع ما كتب في سفر نشيد الأناشيد، بل أستطيع أن أقول أن ما كتبه الصوفيون المسلمون في العشق الإلهي، ما هو إلا انعكاس لما تأثروا به من سفر نشيد الأناشيد.
ومما يثبت لك أن التصوف الإسلامي قد أخذ عن التصوف المسيحي، أسوق إليك هذه الأدلة:
1ـ الدليل الأول: ما قاله الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب "شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية" (ص 10و11) قال:
[عندما نبحث عن مصدر التأثير الواعي أو اللاواعي في التصوف الإسلامي، يجب أن يتجه البحث إلى التأثير المسيحي إذ تغلُب عليه هذه الفكرة، فكرة المحبة الإلهية] .
2ـ دليل آخر: يقول أيضا الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب "شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية" (ص 6) إذ ذَكَر أنه في كوخها المتواضع كان يوجد مشجب "أي شماعة" تضع عليه أكفانها، فكانت تستخدم هذا المشجب بما عليه من أكفان، لتضع أمام عيونها موضوعا للتأمل أثناء الذكر العقلي، مثل القديسة تريزا والصوفية المسيحيين عامة في استخدامها نموذج الصليب، فكان صليبها هو مشجبها المجلل بأكفانها. وما أقوى الشبه كما سنرى بين هذه الصوفية المسلمة وبين تلك الصوفية المسيحية!" (ص6) .
3ـ ودليل ثالث: ما قاله الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب "شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية" (ص 12) نقلا عن كتاب "تَذْكِرَةِ الأولياء" لكاتبه فريد الدين العطار، الذي قال: "... لقد هبطت عليها رسالتها الروحية، عندما كانت تسير ذات يوم، فشاهدت رجلا غريبا يرمقها بنظره مضمرا لها الشر، فهربت وسارت في طريق دمشقها هي الأخرى (أي مثل بولس الرسول الذي رأى نفس الرؤية وهو في الطريق إلى دمشق). ثم ارتمت على التراب وظلت تناجي ربها قائلة: "إلهي أنا غريبة يتيمة،مكبلة بقيود الرق والعبودية، ولكن همي الكبير هو أن أعرف: أراض أنت عني أم غير راض؟ فسمعت صوتا يقول: "لا تحزني! ففي يوم الحساب يتطلع المقربون إلى السماء إليك ويحسدونك على ما ستكونين فيه" فلما سمعت هذا الصوت عادت إلى بيت سيدها، وصارت تصوم وتخدم سيدها وتصلي لربها طوال الليل". ويكمل حديثه قائلا:
"إن رابعة العدوية لم تجد خلاصا أو بالأحرى عزاءً لها إلا في الإيمان والثقة بالله والتعزي بالآخرة، وهي ظاهرة طالما حدثت في النفوس النبيلة ... ونراها في الجيل الأول للمسيحية ... ومن هنا تنصرف هذه النفوس النبيلة إلى طلب الملكوت الأعلى" (ص12) .
4ـ ودليل رابع:عندما اتُّهِم الحسين ابن منصور الحلاج بالكفر، وهو أحد رواد التصوف الإسلامي بالعراق في القرن التاسع الميلادي، [هل تدري ماذا فعلوا به؟] جاء في (الموسوعة العربية الميسرة ص 732) أنهم صلبوه، ثم قطعوا رأسه، ثم أحرقوه!! ونسأل لماذا صلبوه؟ نجد الإجابة في أحد أبيات شعره التي عبر بها عن تأثره بالمسيحية إذ قال:
ألا أَبـْلِـغْ أحبـائي بـأنـي ركبت البحر وانكسر السفينة
على دين الصليب يكون موتي فلا البطحا أريـد ولا المديـنة
هذه يا عزيزي فكرة مبسطة عن التصوف الروحي في المسيحية والإسلام، والتصوف موجود في كل أديان العالم: الديانة الفارسية، والهندية، واليهودية، وطبعا المسيحية والإسلام، وتوجد في الإسلام مدارس متعددة للتصوف منها: المدارس الحجازية، والعراقية، والشامية، والمصرية، والمغربية، والسودانية، وغيرها ولكل مدرسة روادها. وتتفق هذه المدارس فيما بينها في أمور، وتختلف في أمور أخرى. وعن هذا يحسن أن تقرأ كتاب "المذاهب الصوفية ومدارسها للإستاذ عبد الحكيم عبد الغني قاسم".
الفصل الثالث - العلاقة بين التصوف وسفر نشيد الأناشيد
الواقع إن العلاقة وطيدة بين ما وضحته عن التصوف الروحي وسفر نشيد الأناشيد، وسر هذه العلاقة يكمن في أن جميع الاتجاهات الصوفية الروحانية لها قاعدة واحدة وهي الحب الإلهي أو كما يفضلون أن يسموه العشق الإلهي. وإذ لم يسعفهم النثر للتعبير عن التجربة الوجدانية العميقة، فعبروا عن شعورهم الجارف بما يعرف بشعر الغزل المقدس. وهذه هي التهمة الموجهة إلى سفر نشيد الأناشيد، فإذا ما عرف المعترض أساس شعر العشق الإلهي بطل استعجابه.
فسفر نشيد الأناشيد في الكتاب المقدس هو قصيدة شعر باللغة العبرية ، شعر صوفي روحاني، تماما مثل ما في التصوف الإسلامي من قصائد الشعر الصوفي، أمثال قصائد رابعه العدوية، وابن عربي، وابن الفارض، وذي النون المصري، وغيرهم.
وقصائد الشعر الصوفي كما قلت تتحدث عن العلاقة الحبيَّة والعشق الإلهي بين الإنسان وبين الله.
ولا يخفى على القارئ أن الشعر عموما، والشعر الصوفي خصوصا، يتميز بالصور البلاغية، والتعبيرات الرمزية المجازية، أي أنه مملوء بالتشبيهات والاستعارات والكناية والتورية، وهي كلها أساليب أدبية بلاغية راقية، للتعبير عن المحبة الإلهية السامية. ولا تؤخذ كلمات الشعر بالمعنى الحرفي المادي، وإلا ما كان شعراً.
فإذا ماوضعنا هذا الاعتبار في قراءتنا لسفر نشيد الأنشاد، بطل الإدعاء بأنه شعر غزل فاضح، فلا يقول هذا القول سوى متخلف عن ركب الثقافة والمعرفة.
ولكن هل صحيح أن نشيد الأنشاد رسالة من الملك سليمان موجهة إلى عشيقة له؟
هذا كلام غير صحيح. ولا يقول به إلا إنسان ساذج، لا يعرف معنى العشق. فالعشق تشوق واشتياق، والاشتياق رجاء، والرجاء رغبات بعيدة المنال يسعى الوَلْهان جادا ليحققها، أما الملوك فلا ينطبق عليهم ذلك، فليس شيء بعيد المنال بالنسبة لهم، إذ هم قادرون أن يحققوا كل ما يرغبون، وأن يبلغوا بالقوة إلى كل ما يرجون، وشعارهم: "وما ملكت أيمانكم". فأيمانهم طائلة، بل متطاولة حتى إلى زوجاتِ أبنائهم، فليس لديهم مشكلة، لتُدْخلَهم في دائرة العشق والتلهف والوَلَه. فالواقع هو أن الملوك لا يعشقون، ولكنهم عندما يشتهون يملكون. ومن هنا جاء تعدد زوجاتهم وسراريهم وما ملكت أيمانُهم.
وعندما نرى ملكا عاشقا كسليمان، فمن المؤكد أن عشقة ليس موجها إلى إمرأة يستطيع أن ينالها، فلابد أن عشقه موجه إلى محبوب بعيد المنال: إلى الله ذاتِه. فأشواقه البعيدة المنال التي يصبوا إليها، ويسعى متلهفا حتى تتحقق، هي اللقاء الحبي مع من تحبه نفسه. اسمعه يقول في هذا السفر الروحي: "أنا لحبيبي وإليَّ اشتياقه ... اجعلني كخاتم على قلبك، كخاتم على ساعدك، لأن المحبة قوية كالموت، الغيرة قاسية كالهاوية، لهيبها لهيب نار لظى الرب، مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة، والسيول لا تغمرها، إن أعطى الإنسان كلَّ ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقارا" (نشيد 7: 10، نشيد8: 6،7) .
هذه النغمة العاشقة الولهانه نراها تلون أيضا شعر العشق الإلهي الصوفي بكل وضوح، فاسمع هذه الأبيات لشاعر صوفي مسلم عن شوقه للقاء الله، وهو يقول:
أنت سؤلي وبغيتي وسروري قد أبى القلبُ أن يَحِبَّ سـواكا
يا حبيبَ القلبِ من لي سواكا فارحـمَ اليومَ مذنبـا قد أتاكا
يا مناي وسيدي واعتمـادي طال شوقي ـ متى يكون لُقاكا
ليس سؤلي من الجِنان نعيمٌ غيــرَ أنـي أريـدُهـا لأراكا
هذا هو العشق المقدس للمحبوب بعيدِ المنال، وهذه هي الأشواق المشبوبة المتوقدة لرؤيته.
ويقول في ذلك أيضا الدكتور عبد الرحمن بدوي: يُحكى عن رابعة العدوية أنها كانت تنوح باستمرار، فسئلت: لماذا تنوحين وأنت لا تشكين ألما؟ فأجابت: وا حسرتاه! الْعلَِّةُ التي أشكوها ليس مما يستطيعُ الطبيبُ علاجَه. إنما دواؤها الوحيد رؤية الله. وما يعينني على احتمال هذه العلة إلا رجائي أن أحقق غايتي هذه في العالم الآخر." (ص76) .
أفبعد هذا يجرؤ أحد أن يقول أن سفر نشيد الأناشيد رسالة من الملك سليمان إلى عشيقة له؟! حاشا، فسفر نشيد الأناشيد كما قلنا هو قصيدة شعر صوفي روحاني كتبها بالوحي سليمان الحكيم المتيم بالعشق الإلهي، يصف خلجاتِ نفسه في علاقتها بحبيب الروح وخالقِها، وهو رغم جبروته وحكمته وغناه، لكنه يقف عاجزا وفقيرا أمام أشواقه المتعطشة إلى حب الله والتمتع برؤياه.
ولعلك تتساءل قائلاً أنه إن كان نشيد الأناشيد هو علاقة عشق، فمن هو العاشق ومن هي العشيقة؟ .
إن سفر النشيد يمثل العلاقة الحبية المقدسة بين الله والنفس البشرية المتيمة بعشقه، فهذه العلاقة الحبية هي موضوع الشعر الصوفي عموما، وموضوع سفر نشيد الأناشيد على وجه الخصوص.
هذه العلاقة الحبية قد وُضِعَت في قالب مجازي بليغ، قالب العلاقة الشرعية التي توحد وتؤلف بين العريس وعروسه. فشُبّهت النفس البشرية بعروس وشبه الله بالعريس. وهذا ما قال يوحنا المعمدان: "من له العروس فهو العريس" (يوحنا 3: 29) وبولس الرسول قال: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو11: 2).
وبنفس الصورة البليغة كانت علاقة رابعة العدوية المتصوفة المسلمة بالله، إذ يقول الدكتور بدوي عنها في كتابه [شهيدة العشق الإلهي: رابعة العدوية ص 26] "لقد بدأت رابعة تستشعر الحب لله، وإنه لينمو، وتواكبه مشاعر مختلفة، لعل من بينها، ومن أقواها الشعور بأنها نذرت نفسها لهذا المحب الأسمى" ويواصل حديثه قائلا: "وعما قليل ستعلن خطبتها إليه، ولعل ذلك أن يفضي في النهاية إلى الزواج الروحي بينها وبين الله" ـ الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب "شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية" (ص26) .
ألا ترى معي أن هذا تعبير غريب وصعب أن يقبله أي إنسان؟
بالتأكيد هو في غاية الصعوبة، وهذا ما دعى الدكتور بدوي أن يعلق قائلا: "هذا نص على أكبر درجة من الخطورة لأنه يتحدث عن وجود فكرة الزواج من الله والاقتران به لدى الصوفيات المسلمات حتى منذ القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي، وهي الفكرة التي لعبت دورا خطيرا في التصوف المسيحي" ـ الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب "شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية" (ص 27) وتصديقا لكلام الدكتور بدوي نقول أن آباء الكنيسة كانوا يسمون العلاقة الحبية مع الله بالزيجة الروحانية.
هل فطنت الآن لتعرف من هو العاشق ومن هي العشيقة؟ إنها النفس البشرية في عشقها المقدس لله السامي غير المحدود. وهذا ما كتبه الأستاذ مأمون غريب عن رابعة العدوية بهذا الشأن فقال "فإذا مستها هذه الشرارة المقدسة شرارة الإغاثة لتتجه إلى نور الهداية فإذا بها تنقاد نحو هذا النور .. وتغرق فيه .. وتشدو بحبيبها الذي لا يعادله حبيب .. إنه الخالق العظيم .. (كتاب رابعة العدوية في محراب الحب الإلهي ص5).
الفصل الرابع - العشق الإلهى والإبتداع فى الدين
بعد كل ماسبق إيضاحه قد يقفز إلى ذهنك تساؤل وهو :
ألست معي أن ما يقال عن الحب الإلهي أو العشق الإلهي إنما هو بدعة في الدين؟.
لا ياعزيزي أنا لست معك في ذلك، وأسوق إليك كلمات رجل مسلم متمسك بدينه هو الأستاذ مأمون غريب في (كتاب رابعة العدوية في محراب الحب الإلهي ص 19) حيث يقول: "لم يكن الصوفية مبتدعين وهم يريدون من تعبدهم لله أن تشرق عليهم الأنوار الإلهية". ويعود ليؤكد هذه الحقيقة في (نفس الكتاب ص80) بقوله "الحب الإلهي إذن هو غاية الصالحين، وليس بدعة أو اختراع".
واسمع الدكتور علي صافي حسين في كتابه الأدب الصوفي في مصر 221) يقول: "وكان ذو النون المصري أول شاعر صوفي تحدث في شعره عن العشق الإلهي أو المحبة الربانية ... ولم يكن يختلف في شيء ذي بال عما كان عليه شعر الغزل بمعناه العام". (ص221).
وأسوق إليك شعر محمد الكيزاني أحد الصوفيين الكبار، من (كتاب الأدب الصوفي في مصر ص (20) .
ولقد أودعَ الغـرامُ بقلـبي زفراتٍ أضحى بها مصـدوعا
وإذا أطنـب العـزول فـقد عاهدت سمعي ألا أكون سميعا
وحرامٌ علَىَ التلهفِ ألا يريـ حَ أويحرقَ الحشا والضـلوعا
ومن الشعر الحديث في العشق الإلهي أنشد قداسة البابا شنودة الثالث قصيدته العصماء التي بعنوان "همسة حب" أقتطف لك بعض أبياتها:
قلبي الخفاق أضحى مضجـعك في حنايا الصدر أخفي موضـعك
ليـس لي فكـر ولا رأي ولا شهـوة أخرى سوى أن أتبـعك
قد نسيت الأهل والأصحاب بل قد نسيت النـفس أيضا في هواك
قد نسـيت الكل في حبـك يا متـعة القـلب فلا تنـسى فتـاك
في سـماء أنت حـقا إنـما كل قلب عاش في الحب سـماك
عرشك الأقدس قلب قد خـلا من هوى الكل فلا يحوي سـواك
هذه عينات من قصائد العشق الإلهي. ونشيدُ الأناشيد في الواقع هو الينبوع الذي نهل منه كل هذا الكمِّ من عشاق الحب الإلهي. إنه المشعل الوقاد الذي ألهب مشاعرهم، وأنار دروبهم، وسبى قلوبهم، وأسكر عقولهم، فانطلقت أرواحهم معبرة عن مذاقة الملكوت الحلوة، لتعزف سيمفونية العشق الإلهي الخالدة، والمتجددة على مدى الأزمان.
العشق الإلهي ياعزيزي درجة سامية في العلاقة مع الله، لا ينكرها إلا من لم يتذوقها. وهل يستطيع الأعمى أن ينكر ضياء الشمس لأنه لا يراها ؟؟؟!!! .
لعلي بهذا قد أجبت تساؤلك يا عزيزي القارئ عن هوية العاشق والعشيقة في سفر نشيد الأناشيد، السفر المعبر عن الحب الإلهي الخاص لوجه الله، الذي ينبغي أن يكون ركيزة العبادة لله، فالعبادة في مفهومها هي أسمى درجات الحب كما نقول في لغتنا أن فلان يحب فلانا لدرجة العبادة، أي أنه لا يستطيع مفارقته.
والواقع أن المشكلة الأساسية في قصور الإنسان عن إدراك أبعاد العلاقة مع الله تكمن في أن الدين أصبح عند العامة هو مجرد فروض وواجبات، دون علاقة حبية بين القلب وبين الله. فكتابنا المقدس يقول: "الله محبة" و "نحن نحبه (نحب الله) لأنه هو أحبنا أولا" (1يو4: 8،19) .
هل تريد يا عزيزي أن تراجع علاقتك بالله هل هي مجرد عبادة الفرض وعلى رأي المثل: يعمل الفرض وينقب الأرض"؟ أم تريد أن تكون علاقة حبية من الآن مع الله. قل له يارب علمني أن أحبك، واسكب حبك في قلبي.
والواقع أنني أعرف كثيرين من أحبائنا المسلمين يعجبون بفكرة المسيحية في الحب الإلهي، وأعلم أيضا أن كثيرين لهم موقف من الإسلام، ويعلنون عدم اقتناعهم به، وفي نفس الوقت يخشون الانضمام إلى المسيحية، حتى لا يتعرضوا للعذاب أو السجن أو حتى القتل، ولهذا يكتفون بإعلان إلحادهم أهون لهم من انضمامهم للمسيحية.
وأحب أن أؤكد أنني لا أدعو أحباءنا المسلمين المستنيرين والمعترضين على الإسلام، إلى ترك الإسلام، ولا أن يلجأوا إلى الاحتماء بالإلحاد، بل أدعوهم أن يظلوا في موقعهم، وبأسمائهم كما هي: محمد ومحمدين، وحسن وحسين. وأن يتجهوا بقلوبهم إتجاها روحيا حبيا في علاقتهم مع الله، تماما مثلما فعل الصوفيون المسلمون أمثال: رابعة العدوية، ومحيي الدين ابن عربي، وابن الفارض، وغيرهم.
وبالمناسبة أقول أن الصوفية المسلمة مع إتجاهها الروحي، تسمح بالزواج، فلا تظن أنك بالاتجاه الروحي إلى الله يلزم أن تكون راهبا أو متبتلا! فلا تعارض بين حب الله وممارسة جوانب الحياة المختلفة. ومن خلال الاتجاه الروحي والعلاقة الحبية مع الله سيعلن الرب لكل واحد الطريق السليم الكامل، لأن الكتاب المقدس يقول: "المقوم طريقه أريه خلاص الرب" (مز50: 23). فقط كن طائعا لله واقرأ من بين ما تقرأ الكتاب المقدس، لتعرف الطريق الحقيقي، وتدخل الحياة المرضية والمقبولة لدى الله.
---------------------------------------
الباب الثاني - ألفاظ سفر نشيد الأناشيد ومعانيها السامية
ـ أوصاف الجسم .
ـ تعبيرات يُقال عنها لاتليق بكتاب من الله.
الفصل الأول - أوصـاف الجسـم
نواصل بحثنا عن سفر نشيد الأناشيد والرد على الاعتراضات بخصوصه.
وقد ناقشنا في الباب الأول موضوع سفر نشيد الأناشيد والشعر الصوفي الروحي.
وفى هذا الباب نتكلم عن الاعتراضات على ألفاظ سفر نشيد الأناشيد .
يتساءل الكثيرون :
هل من المعقول أن يَذكُر وحيٌ من الله، أوصاف أعضاء جسد المرأة: كالثديين والفخاذ، كما جاء في نشيد الأناشيد؟ .
والواقع أنى أوجه تساؤلى أنا أيضاً إلى أصحاب هذا السؤال: هل ذُكرت هذه الأوصاف بطريقة مبتذلة؟ أم أنها ذكرت في قالب من الأدب الراقي، تماما كما تُذكر في كتب الطب بطريقة علمية، وكتب الشعر بطريقة بلاغية. فكلنا يعلم، كما وضحنا في الباب السابق، أن سفر نشيد الأناشيد هو شعر صوفي روحاني، مملوء بالصور البلاغية الرمزية من تشبيهات واستعارات وكنايات، فألفاظه لا تؤخذ بالمعنى الحرفي، بل كما تقول لغة البيان: لا تؤخذ بلازم معناها، وإنما لها معان أخرى تشير إليها، كما سنرى.
وقبل أن أتكلم عن تفسير ألفاظ سفر نشيد الأناشيد التي غلق فهمها على الغلفاء وغير المختونين بقلوبهم، على رأي القديس استفانوس رئيس الشمامسة (أع7: 51) أجد لزاما عليَّ أن أوضح أمرا هاما أساسيا قد أشار إليه القديس بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس الإصحاح (2: 11ـ15) قال: "مَنْ مِنَ الناس يعرف أمور الانسان، إلا روح الإنسان الذي فيه، هكذا أيضا أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله، ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله، لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله، التي نتكلم بها أيضا لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما يعلمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات، ولكن الانسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة، ولا يقدر أن يعرفه، لأنه إنما يحكم فيه روحيا. وأما الروحي فيحكم في كل شيء وهو لا يحكم فيه من أحد" (1كو2: 11ـ15).
فلكي نفهم تعبيرات سفر نشيد الأناشيد، يجب مقارنتها بآيات أخرى من الكتاب المقدس، لتوضيح معانيها "قارنين الروحيات بالروحيات". والواقع أن صفات العروس قد وردت في الاصحاحين (الرابع والسابع) من سفر نشيد الأناشيد. وإليك المعاني الروحية التي تشير إليها هذه الألفاظ من واقع مقارنتها بآيات الكتاب المقدس الأخرى:
1ـ الرأس: تشير إلى الحكمة كما ذُكر في (أمثال4: 7و9) "الحكمة هي الرأس فاقتن الحكمة ... تعطي رأسك إكليل نعمة، تاج جمال تمنحك" .
2ـ الشَّعر: يرمز إلى العناية الإلهية بالإنسان: فقد قيل في (متى10: 30) "وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة" .
3ـ العينان: ترمزان إلى البصيرة الروحية، كما وضح معلمنا يوحنا في رسالته الأولى (إصحاح5: 20) "ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق" .
4ـ الخدُّ تحت النقاب: [أي تحت الحجاب أو البرقع] يرمز إلى إمتياز البهاء (خروج34: 29) "وكان لما نزل موسى من جبل سيناء .. لم يعلم أن جلد وجهه صار يلمع في كلامه معه .. فإذا رأى بنو اسرائيل وجه موسى أن جلده يلمع كان موسى يرد البرقع على وجهه" .
5ـ الفم: يرمز إلى الحديث بما يرضي الله. (مزمور19: 14) "لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك" .
6ـ الشفتان: ترمزان إلى التسبيح والاعتراف باسم الرب (عبرانيين13: 15) "ولنقدم به في كل حين ذبيحة التسبيح أي ثمر شفاه معترفة باسمه" .
7ـ الأسنان: ترمز إلى هضم كلمة الله (أرميا15: 16) "وُجد كلامك فأكلته فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي ..." .
8ـ العنق: يرمز إلى قوة الإيمان ففي (أيوب41: 22) "في عنقه تبيت القوة ..." ولهذا وصف عنق العروس ببرج الأسلحة والمجان (نشيد الأناشيد4: 4) .
9ـ الثديان: يرمزان إلى التغذية الروحية من العهد القديم، والعهد الجديد، وهما ثديا الأم الروحية الكنيسة عروس المسيح، ففي سفر أشعياء يقول: (أشعياء66: 11) "لكي ترضعوا من ثدي تعزياتها" .
والواقع إني لأتعجب من اعتراض الأخوة المسلمين قائلين هل ذِكْر ثديي المرأة يليق بكتاب من عند الله؟؟؟؟؟ عجبا! أفلا يطبقون هذا القول على القرآن ذاته؟ ألا يعلمون أن القرآن قد ذكر هذا اللفظَ بعينه في وصف حوريات الجنة، في (سورة النبأ 78: 31ـ33) إذ يقول: "إن للمتقين مفازا [أي جنة] حدايق وأعنابا [أي بها أشجار وكروم] وكَواعِبَ أترابا [كواعب: أي نهود أو أثداء جمع نهد أو ثدي، كما جاء في (المعجم الوسيط الجزء الثاني ص 790) وأترابا: بمعنى أن الحوريات مستويات السن [تفسير الإمام النسفي الجزء 4 ص 479]، أي لا توجد واحدة كبيرة السن مثل خديجة، وأخرى صغيرة السن مثل عائشة]" والقرآن لا يقصد المعنى المجازي الروحي بل المعنى الحرفي المادي للحوريات والخمر والولدان. في حين أن نشيد الأناشيد لا يقصد المعنى الحرفي بل المعنى الرمزي الروحي.
ألا يخجل المعترضون من قرآنهم، ويكفون عن اتهام الكتاب المقدس باطلا.
10ـ البطن: ترمز إلى الحياة الباطنية أي الانسان الباطن أو الداخلي كما يقول بولس الرسول في: (أفسس3: 16) "لكي يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن" .
11ـ السرة: ترمز إلى الفطامة الروحية: فقطع الحبل السري بعد الولادة يعطي للمولود حياة، تعتمد على ما يحصله بالفم، وليس عن طريق الحبل السري، وينبغي مقارنة ذلك بما قيل عن المولودة اللقيطة في (سفر حزقيال إصحاح 16: 4) "أما ميلادك يوم ولدت فلم تقطع سرتك ولم تغسلي بالماء للتنظف ..." بل تركت للموت.
12ـ دوائر الفخذين: (أي مفاصل الساقين):
The joints of your limbs are like jeweled chains, the work of a master hand.
والمفاصل في جسم الإنسان هي الروابط التي تربط أعضاء الجسم بعضها ببعض، وهي ترمز إلى الروابط القوية بين أعضاء جماعة المؤمنين كجسد واحد. وهذا ما وضحه بولس الرسول عن دور المفاصل في تركيب الجسد، إذ قال "ننمو في كل شيء نحو المسيح الذي هو الرأس، فبه يتماسك الجسد كله ويلتحم بفضل جميع المفاصل التي تقوم بحاجته، حتى إذا قام كل جزء بعمله الخاص به، نما الجسد كله، وتكامل بنيانه بالمحبة" (أفسس4: 15و16) .
وقد جاءنا سؤال من أخت مسئولة فى إحدى غرف الحوارات بالإنترنت وقد خَجَلَت كما تدَّعي من أن تقوله، فأرسلته بالـ E-Mail إلى أحد الإخوة ليقرأه عوضاً عنها، وكان السؤال بخصوص الآية من سفر نشيد الأناشيد التي ذُكِر فيها دوائر (أي مفاصل) الفخذين (أي الساقين)، وتعجبت في الحقيقة من خجلها، فقد أخَذَتْ الكلامَ بمعناه الحرفي، ولم ترتق إلى المستوى الروحي والرمزي لكلمات الوحي الإلهي. وتعجبت بالأكثر أنها لا تجد خجلا من قراءة ونطق هذا اللفظ بعينه: فخذ عائشة الذي كان النبي محمد يضع رأسه عليه كما ذكر في (الحديث رقم 5250 من صحيح البخاري الجزء الثالث ص 270 طبعة دار البيان العربي) الذي يقول بالحرف: "حدثنا عبد الله بن يوسف ... عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رأسه على فخذي!!!!! .
وما هو رأي هذه الأخت في حديث الإمام أبو محمد ابن عبد الملك ابن هشام في كتابه (السيرة النبوية الجزء الأول ص 230 طباعة دار المعرفة سنة 2001م) إذ يقول بالحرف: "قال رسول الله (صلعم): يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني. قالت: قم يا ابن عمِّ فاجلس على فخذي اليسرى. فقام رسول الله وجلس على فخذها. قالت: هل تراه؟ قال نعم. قالت: تحول واجلس على فخذي اليمنى، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على فخذها اليمنى. فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. قالت: تحول واجلس في حجري (أي بين فخذيَّ) فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس في حجرها [أي بين فخذيها] فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. فتحسرت [أي كشفت عن وجهها] وألقت خِمَارَها [أي ما يستر وجهها] ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها [أي بين فخذيها] ثم قالت له: هل تراه؟ قال: لا. فقالت يا ابن عمِّ اثْبَتْ وأبْشِرْ فوالله إنه لملكٌ وما هذا بشيطان!!!!" .
ألا توجد علاقة بين هذه القصة وبين ما قالته عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رأسه على فخذيَّ ويقرأ القرآن وأنا حائض!!!!! (البخاري باب الحيض 2) .
وبصرف النظر عن بحث علاقة فخذَيِّ خديجة بإثبات أن الذي ظهر لمحمد هو ملاك وليس شيطانا [فهذه قضية أخرى] ولكني أقول للأخت التى أثارت هذا السؤال ألم تخجلي من هذه الفخاذ: فخاذ خديجة وعائشة رضوان الله عليهما، أكانت أفخاذُهما مقدسة، في حين أن الصورة البلاغية لدوائر فخذ أو مفاصل ساقي عروس النشيد، عمل من رجس الشيطان الرجيم؟؟؟ .
13ـ الرجلين: ترمزان إلى السعي للخدمة ببشارة السلام كقول الرسول بولس في (رسالة أفسس6: 15) "حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام" .
هذه هي معاني ومدلولات أجزاء الجسم التي يقول المغرضون أنها ألفاظ هابطة. فقد اتضح لنا سمو الإشارة وبلاغة التعبير للمعاني السامية التي تعبر عن ترابط جسد الكنيسة المقدسة كعروس روحية للمسيح.
الفصل الثانى - تعبيرات يُقال عنها لاتليق بكتاب من الله
لعلك ياقارئى العزيز قد تبينت المعانى الروحية لأوصاف الجسم التى وردت فى سفر نشيد الأناشيد كما وضحنا فى الفصل السابق، ولكن ماذا عن التعبيرات التى وردت فى سفر النشيد وتبدو كما لو كانت تعبيرات غير لائقة بكتاب من عند الله ؟.
1) لعل التعبيرات التي تثير تساؤلاتك، هي عبارات الحب والغرام والعشق، التي يذخر بها سفر النشيد،
ولقد وضحنا فى الباب الأول، أن هذه العبارات ليست من باب الغزل الفاضح كما يتوهم المدعون، ولكنها عبارات الحب والعشق المقدس، تماما مثل العبارات التي يذخر بها الشعر الصوفي الإسلامي، وعلاوة على الأمثلة التي ذكرتها فى الباب الأول أضيف أيضا بعضا آخر:
أ ) من شعر محمد الكيزاني أحد الصوفيين الكبار، من (كتاب الأدب الصوفي في مصر للدكتور علي صافي حسين ص (20) قال:
ولقد أودعَ الغـرامُ بقلـبي زفراتٍ أضحى بها مصـدوعا
وإذا أطنـب العَـزول فـقد عاهدتُ سمعي ألا أكون سميعا
وحرامٌ علَىَ التلهفِ ألا يريـ حَ أويحرقَ الحشا والضـلوعا
ب ) ومن كتاب "رابعة العدوية في محراب الحب الإلهي" للأستاذ (مأمون غريب) (ص 8و52) يقول عن رابعة: يكفيها أنها بهذا الحب كونت مدرسة في التصوف الإسلامي، سار على نهجه بعد ذلك كبار رجال الصوفية .. وهي مدرسة الحب الإلهي]. ولهذا أنشدت قائلة:
إني جعلتك في الفؤاد محدِّثي وأَبَحْتُ جسمي من أراد جلوسي
فالجسمُ مني للجليسِ مؤانسي وحبيبُ قلبي في الفـؤاد أنيسي
جـ ) وفي نفس الكتاب (ص 47) ترنم محي الدين ابن عربي قائلا:
أدين بدين الحب أَنَّى توجهَتْ ركائبُه فالحب ديني وإيماني
د ) وفي نفس الكتاب (ص 47) أنشد عمر ابن الفارض أيضا قائلا:
ومن مذهبي في الحب مالي مذهبُ وإن مِلْتُ يوما عنه فارقتُ مِلَّتي
وإن خطَرَت لي في سـواك إرادةٌ على خاطري سهوا قضيتَ بردَّتي
هذه بعض عبارات الحب والغرام في الشعر الصوفي الإسلامي أفتعتبر مثل هذه التعبيرات عيباً إن وُجدت في سفر نشيد الأناشيد؟؟.
2) أيضاً في سفر نشيد الأنشاد تقول العروس إني مريضة حبا. فهل هذا يليق؟ .
نعم هذا يليق في الشعر الصوفي، حتى الإسلامي منه فهيا بنا نستعرض بعضاً منه:
أ ) ما قاله الحلاج:
حـبي لمولاي أضـناني وأسقمـني فكيف أشكو إلى مولايَ مولائي؟!
يا ويح روحي من روحي، فوا أسفي علـيَّ مني، فإني أصل بلـوائي
ب ) وهذا ما قاله محمد الكيزاني:
(كتاب الأدب الصوفي في مصر للدكتور علي صافي حسين (ص 214و216) :
اصـرفـوا عـني طبيـبي ودعـونـي وحبـيـبي
عـللـوا قـلـبي بذكـراه فـقـد زاد لـهـيـبي
طـاب هتـكي فـي هـواه بـيـن واش ورقـيـب
لا أبـالي بمـوات الـنفـ س مـادام نـصيـبي
جـســدي راض بـقـ سـمي وجفوني بنحيـبي
جـ ) واسمع ما ذُكر عن رابعة العدوية التي أنشدت قائلة:
يا مؤنسَ الأبرارِ في خلواتِهم يا خـيرَ من حلت بـه النُّـزَّالُ ]المحبين[
من ذاق حبك ما يزال متيما فَرَحُ الفـؤادِ، متيـماً، بَلْبَـالُ [مهموم]
من ذاق حبَّك لا يُرى متبسما من طول حزن في الحشا إشعال
وتعليقاً على هذه الأبيات قال الدكتور بدوي في كتابه عن رابعة: "يحكى أن رابعة كانت تنوح باستمرار، فسُئلت: لماذا تنوحين وأنت لا تشكين ألما؟ فأجابت: وا حسرتاه! الْعلَِّةُ التي أشكوها ليس مما يستطيع الطبيب علاجه. إنما دواؤها الوحيد رؤية الله. وما يعينني على احتمال هذه العلة إلا رجائي أن أحقق غايتي هذه في العالم الآخر." (ص76) .
ويعلق الدكتور بدوي على ذلك قائلا: "ما أبدع العبارة في وصف ما تشكوه! لقد ألحت عليها الرغبة في الرؤي، حتى استحالت مرضا، مرضا تتألم له، لأن الحب قد صار من القوة والنفوذ بحيث صارت له آثار توغل في أعماق الروح فتصيبها بالعلة، هنا [المرض حتى الموت] من شدة الألم العالي" (ص76) .
ألا يشبه هذا ما قيل في سفر نشيد الأناشيد "إني مريضة حبا" (نش2: 5) .
لعل في هذا إجابة شافية لتساؤلك عن المرض حبا الذي ورد في نشيد الأناشيد.
3 ) في سفر النشيد تتغنى عشيقة سليمان بالخمر، أهذا يليق أيضا بكتاب من عند الله؟
أعود وأقول أن هذا السفر ليس بين سليمان وعشيقته، وإنما هو العشق الروحي كما في التصوف الإسلامي. أما عن التغني بالخمر، فذلك يرمز إلى خمر محبة الله التي يسكر بها العاشق الولهان بالحب الإلهي. وقد ورد الكثير من هذه التعبيرات في شعر التصوف الإسلامي، وإليك بعض الأمثلة:
أ ) من كتاب شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية للدكتور عبد الرحمن بدوي(في ص 173) يتحدث عن سكرها من كأس خمر الحب الإلهي: إذ تقول:
كأسي وخمري والنديم: ثلاثة وأنا المشوقة في المحبة: رابعه
كأس المسرة والنعيم، يديرها ساقي المُدام على المدى متتابعة
فإذا نُظِـرْتُ فلا أُرى إلا لـه وإذا حَضَرْتُ فلا أُرَى إلا مـعه
يا عاذلي! إني أحـب جمالـه تالله ما أُذُنـي لعَـذَلِك سامـعه
كم بِتُّ من حُرَقي وفرط تعلقي أُجْري عيونا من عيوني الدامعه
لا عَبْرَتي تُرْقا، ولا وصلي له يبقى ولا عيني القريحة هاجـعه
ب ) وفي كتاب "رابعة العدوية في محراب الحب الإلهي" للأستاذ (مأمون غريب) (ص 52 يقول: إن رابعة العدوية كانت تريد أن تشرب وتشرب من هذه الكأس الربانية، هذه الكأس التي يصعب وصفها، بل إن عمر بن الفارض كان وصفه رغم ما فيه من رقة المشاعر، يبدو غامضا، تشعر ما فيه من جمال وجلال دون أن تفهمه فهما حرفيا، إنك تستشعرعمق هذا الحب لله، وإن صعب شرحه. (ويكمل الأستاذ غريب كلامه قائلا
يقولون لي صفها فأنت بوصفها خبير، أجـل عنـدي بأوصـافها علـمُ
صفاءٌ ولا ماءُ، ولطفٌ ولا هوى ونورٌ ولا نارُ، وروحٌ ولا جسـمُ
تَقَـدَّمَ كـلَّ الكائنـاتِ حديثُـها قديما، ولا شـكلٌ هنــاك ولا رســـمُ
وهامت بها روحي بحيث تمازجا اتحـاداً، ولا جـرمٌ تخللـه جـرمُ
ولا قبلها قبـل، ولا بعدها بعـد قبليـة الأبعـاد، فهي لها ختـمُ
هكذا بدا التغني بالخمر في الشعر الصوفي الإسلامي، إذن فلا غضاضة من التغني بها في سفر نشيد الأناشيد بالمعنى الرمزي الروحي الدال على النشوة بخمر محبته.
4) قد يعترض البعض قائلين أن الأمور الخاصة بالعشق وبأعضاء الجسم هي أمور مخجلة، ولاتطيق الأذن أن تسمعها .
ومثل هؤلاء المعترضين أسألهم : إن كنتم تقولون على هذه العبارات المقدسة أنها مخجلة فما رأيكم في هذه العبارات الإسلامية؟:
أ ) ما جاء بسورة (النور24: 31) تقول: "وقل للمؤمنات يغْضُضْنَ من أبصارهن، ويحفظن فروجهن" ما معنى هذه الكلمة؟ [الواقع أنها تعتبر كلمة قبيحة، ولا يوجد نظير لها في سفر نشيد الأناشيد، ولا في الكتاب المقدس على الإطلاق] .
ب ) ثم ما جاء بالحديث: ( صحيح البخاري حديث رقم 5265 الجزء الثالث ص 272) "عن عائشة، قالت طلق رجل امرأته فتزوجت زوجاً غيره فطلقها، وكانت معه مِثلُ الهدبة [كلمة قبيحة] فلم تصل منه إلى شيء تريده، فلم يلبث أن طلقها. فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يارسول الله إن زوجي طلقني، وإني تزوجت زوجا غيره، فدخل بي، ولم يكن معي إلا مثل الهدبة [نفس الكلمة القبيحة] فلم يقْرُبْني إلا هَنَةً واحدة [تعبير قبيح]، لم يصل مني إلى شيء، فأَحِلُّ لزوجي الأول؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحِلَّين لزوجكِ الأول حتى يذوق الآخر عُسَيْلَتَكِ وتذوقي عُسَيْلَتَهُ" [كلمات قبيحة جداً]. وفسَّر صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "لا تحلي له حتى تنكحي زوجا غيره" [منتهى قلة أدب] (صحيح البخاري حديث رقم 5265 الجزء الثالث ص 272) .
الواقع أنني لا أستطيع أن أشرح معاني هذه الكلمات حفظا للحياء، وخشية إيذاء السامعين والسامعات، وخاصة صغار السن والصغيرات، الذين واللائي يقرأون ويتابعون هذه الكلمات . أليست هذه أحاديث مخجلة حقاً يا عزيزي السائل.
جـ ) ثم ما جاء في البخاري باب الحيض 4 عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا والنبي من إناء واحد، وكلانا جُنُبٌ [كلمة قبيحة لا أستطيع أن أنطق بمعناها، فانظرها بالقاموس] وتكمل حديثها قائلة: "وكان يأمرني فأتَّزر فيباشرني وأنا حائض [عبارة قبيحة جدا]. وكان هكذا يفعل بزوجاته الحائضات" [كلام قبيح تفيح منه رائحة العفونة]!!!!! .
د ) وحديث آخر لعائشة في البخاري باب الحيض أيضا رقم 5 تقول فيه: "أيكم يملك إرْبَه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك إرْبَه" [معنى هذه الكلمة قمة القباحة، ابحث عنها في القاموس] .
أفبعد هذا تقولون أن سفر نشيد الأناشيد يحوي كلاما مبتذلا!! أين كلام نشيد الأناشيد من هذه الألفاظ التي لا تطيق الأذن أن تسمعها؟؟ والتي يخجل الإنسان المؤدب أن يتلفظ بها، ولولا أنني أردُّ على سخافاتهم ما سمحت لنفسي أن أقتبسها، فسامحوني، ولابد أن أقدم توبة واعتراف عن هذا الذنب حتى يغفر الله لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر.
أخي القارئ أرجو أن تراجع مسلماتك وتفحص كل شيء لتتمسك بالحسن. وليتك تقرأ الكتاب المقدس فهو أقدس ما كتب، إنه رسالة من الله شخصية لك، لعله ينير لك الطريق إلى قلبه المحب المستعد أن يقبلك إذا لجأت إليه، فهو الذي قال "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (متى11: 28).
يتبع..
.