إن كان العقل يقود الإنسان، فما الذي يقود العقل؟
من
كتاب من هو الإنسان؟ - البابا شنوده الثالث
المعروف عند جميع الناس أن الإنسان مخلوق عاقل. وأنا أريد أن أناقش هذا الموضوع: إلى أي حد الإنسان مخلوق عاقل؟
هل الإنسان عقل خالص صرف؟ أم أنه يخضع لمؤثرات كثيرة، تجعله أحياناً لا يتصرف بعقله كما ينبغي؟
وسنعرض لكل هذه المؤثرات ونفحصها..
1- أول نقطة نناقشها هي نوع العقل:
أهو عقل ذكي؟ أم عقل عبقري؟ أم متوسط الذكاء؟ أم ضعيف الذكاء؟ أم غير ذكي على الإطلاق؟
ذلك لآن عقليات الناس تتفاوت في نوعيتها ودرجاتها. وحسب التفاوت يختلف الفهم والتفكير والاستنتاج.
وتختلف أيضا نوعية الذاكرة: هل هي مجرد ذاكرة جامعة وحافظة؟ أم حافظة ومرتبة؟ أم ذاكرة فوتوغرافية؟ وهل تسعفه في أي وقت، أم تخونه أحياناً؟
كذلك ما نوع تفكيره؟ هل هو تفكير شامل؟ أم يتركز في زاوية واحدة ويهمل الباقي؟ وهل هو تفكير سطحي أو عميق؟ وما درجة عمقه؟
وعلى هذا القياس، إلى أي حد نقول عن كل أحد أنه عاقل؟
ليس الناس على حد سواء، حتى في فهمهم ما هو حادث، أو فهم ما ينبغي أن يحدث.. هناك شخص بالكاد يقود نفسه، وآخر يمكنه أن يقود غيره أيضاً. وثالث يحتاج إلى من يقوده.
2- وهناك من تتعبهم طريقة تفكيرهم. وقد تتعب غيرهم معهم أيضاً..
إنسان قد يفكر في مشكلة، ويساعده عقله على حلها. وإنسان آخر تستقطبه المشكلة، وتستولى على عقله وكل تفكيره، في صحوه وفى نومه، وربما في أحلامه أيضاً. ولا تترك له فرصة ليفكر في غيرها. وبهذا تفكيره فيها يتعبه، ويقيناً يؤثر على أعصابه ونفسيته..
3- وقد يوجد إنسان يسيطر على عقله الشك:
يشك في الأحداث وما تحوى. ويشك في الناس وتصرفاتهم ونواياهم.. يشك فيما يقال وما يسمع. ويشك في قدرته على التصرف. ويشك في المستقبل.
والشك يتعبه ويؤلمه، وقد يجلب له الخوف والاضطراب ومع ذلك فعقله غير قادر أن يخرج من دائرة هذا الشك! ومهما قيل له من تبرير يزيل هذا الشك، فإنه يشك في هذا التبرير أيضاً، ومدى صدقه، وما هو هدفه.
وقد ينمو الشك عنده فيشمل كل شيء، وكل أحد حتى أعز الأحباء.. ويصبح فريسة للإشاعات وللظنون والأكاذيب..
ومن أصعب الشكوك التي تصيب بعض العقول، الشكوك الإيمانية:
مثل الشك في الله عند الملحدين وأمثالهم، والشك في المعجزات عند بعض رجال العلم. والشك في الحياة الأخرى وفى قيامة الأجساد، والشك في الكتب المقدسة، أو في بعض الحقائق الإيمانية والعقائدية والمسلمات.
وإذا وصل العقل إلى هذا الحد من الشك، ما أسهل أن يستلمه الشيطان ويلعب به..
ويزوده عدو الخير بأفكار وأفكار، ويرشده إلى قراءات تزيد شكه، وإلى زملاء من نفس النوع، يعمقون الأفكار التي تحاربه ويضيفون إليها..
هل تظنون مثل هذا العقل عقلاً خالصاً، بينما هو في قيادة غيره؟!
4- العقل أيضاً يتأثر بالجهل:
سواء كان جهله نتيجة عدم معرفة، أو نتيجة معرفة مضللة وصلت إليه، ونتيجة لوقوعه في الجهل، يتصرف تصرفات خاطئة. وإذا يجهل حقائق أي موضوع أو أي حدث، تسيطر عليه بعض الظنون والأفكار التي ما أسهل أن تتعبه..
يحتاج مثل هذا العقل إلى المعرفة الصادقة المقنعة، وإلى التوعية السليمة، وأحياناً إلى العتاب المشبع بالحب والنية السليمة،لكشف الحقائق..
وأصعب أنواع الجهل الذي يحارب العقل، الجهل الذي يرفض المعرفة..
أعني العقل الذي يتمسك بجهله في إصرار، مقتنعاً بما عنده من أفكار، ويشك في كل توعية وكل شرح.. مثل هذا، ربما التجارب تصقله، أو النعمة تفتقده، بتجديد ذهنه (رو3:12). وعلى كل كلما ينمو الإنسان في المعرفة، تتغير طريقة تفكيره، على حسب نوع المعرفة التي تأتيه..
5- هناك عقل يقوده مبدأ معين يؤمن به:
فهو يعيش داخل هذا المبدأ، سواء كان سليماً أو خاطئاً.. ولا يحب أن يتزحزح عنه، بل يستمر حبيساً فيه. ويشكل هذا المبدأ هيكلاً أساسياً لحياته..
صدقوني، حتى بالنسبة إلى كثير من الفلاسفة، الذين يحكمهم العقل فرضاً، ينطبق عليهم المثل القائل بأن نقطة البدء في الفلسفة أحياناً تكون غير فلسفية.. أي ربما يبدأون بعامل نفساني معين، يبنون عليه كل فلسفتهم.
مثل كرة ألقيتها من على جبل: إن ألقيتها شرقاً، تستمر بكل قوتها في هذا الاتجاه الشرقي، كما ذكرنا أيضاً هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وأن ألقيتها غرباً، تستمر في هذا المجال الغربي بكل قوتها..