إعجاز الوحى والنبوة فى سفر دانيال
كاهن كنيسة السيدة العذراء الأثرية بمسطرد
الفهرس
مقدمه
مدخل السفر
الفصل الاول: اعلان الله فى الماضى والحاضر والمستقبل
الفصل الثانى: دانيال سفر الرؤى والنبوات والمعجزات
الفصل الثالث: صحة سفر دانيال وقانونيته
الفصل الرابع: سفر دانيال بين النقد والإعجاز
الفصل الخامس: اعجاز الوحى والنبوه فى السفر
الفصل السادس: التمثال العظيم المجسم لتتابع الأمم
الفصل السابع: رؤيا دانيال الأولى: ممالك العالم وملكوت الله
الفصل الثامن: رؤيا دانيال الثانية: القرن الصغير"ضد المسيح" ومعصيه الخراب
الفصل التاسع: اعلان الملاك جبرائيل: تحديد زمن مجيىء المسيح وغايته
الفصل العاشر: رؤيا دانيال الثالثه ضد المسيح وعلامات النهايه
المراجع
مقدمة
سفر دانيال النبى هو رؤيا العهد القديم، وسفر النبوات التى تكون أكثر من 40% من مجموع آياته، والسفر الذى تنبأ بنبوات تفصيلية ودقيقة عن السيد المسيح، فقد تنبأ عن تأسيس ملكوته "ملكوت السموات" وتكلم عن كونه ملك الملوك ورب الأرباب الآتى على سحاب السماء لتتعبد له كل الخليقة، ومنه أخذ لقب ابن الإنسان، اللقب الذى كان محبباً إلى قلب المخلص، كما حدد سنة مجيئه بتفصيل دقيق، وهو السفر الوحيد فى العهد القديم الذى تنبأ بنبوات تفصيلية دقيقة عن ملوك وممالك حدد بعضها بالاسم مثل الفرس واليونان الذين كانت أحوالهم أبعد ما تكون عما تنبأ به دانيال النبى، فقد كان الفرس وقت النبوة فى بداية ازدهارهم ومجدهم، فى حين أن اليونان لم يكن يبدوا عليهم، وقتها، ما يدل على تحقيق النبوة، وتنبأ عن الاسكندر الأكبر قبل مجيئه بأكثر من 225 سنة نبؤه أذهلت الاسكندر الأكبر نفسه وجعلته يخر ويجثوا على الأرض لله.
هذا السفر أيضا شهد له السيد المسيح وأشار إلى حتمية تحقيق نبوته عن دمار أورشليم ونهاية العالم، كما استخدم السيد نفسه صور السفر وتشبيهاته الأخروية والمسيانية. وتكلم السفر وتنبأ عن أمور أخروية كثيرة مثل صلب المسيح والضيقة السابقة للمجيء الثانى وقيامة الأبرار والدينونة. هذه المواضيع وغيرها أثارت النقاد والملحدين، فهاجمه بكل قسوة فيلسوف الأفلاطونية الجديدة الوثنى بروفيرى لأنه لم يكن يؤمن لا بالنبوات ولا بالوحى، وذلك فى القرن الثالث الميلادى، وجاء العقلانيون والماديون والليبراليون فى العصور الحديثة واتفقوا مع برفيرى فى آرائه لأنهم مثله لا يؤمنون بالوحى أو النبوات ومن ثم تبنوا آرائه وأفكاره وكرروها، وهاجموا السفر بكل قسوة ولكن الله الذى لو يترك نفسه بلا شاهد جعل الحجارة تصرخ وأقام البراهين والحجج والأدلة على صدق كل حرف وكل كلمة وكل نبؤه فى السفر. وكانت الشهادة الكبرى للسفر هى شهادة السيد المسيح نفسه الذى شهد للنبى ولصحة نبواته.
وفى هذا الكتاب نقدم دراسة استمرت حوالى عشرين سنة، ولم تكن هذه البداية، بل كانت البداية سنة 1963 حيث حصلت فى دراسة هذا السفر على أول جائزة دينية فى حياتى (فى سن الثانية عشرة من العمر) وكانت الأولى مشترك. وكان السفر رفيقى دائماً خاصة فى الأيام التى عشت فيها أيام كثيرة بعيداً عن الكنيسة التى أصلى فيها وبعيداً عن سكنى الدائم.
وقد ساعدنى الكثيرين من الأباء الأفاضل على دراسة هذا السفر وعلى رأسهم الأب الموقر والفاضل القمص تادرس يعقوب ملطى الذى قدم لى العديد من المراجع فى الخلوة المشتركة سنة 1982، والتى وضعت المسودة الأولى لهذا الكتاب بعدها مباشرة.
ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم حصلت على مراجع كثيرة وأبحاث ودراسات عديدة لسفر دانيال تعبر عن اتجاهات عقيدية مختلفة ومدارس تفسيرية متنوعة؛ تقليدية وليبرالية وتدبيرية … وقد التزمنا فى هذه الدراسة بالخط الآبائى، التقليدى، الكتابى، المحافظ، الذى ينطلق من أقوال السيد المسيح وتلاميذه فى العهد الجديد عن سفر دانيال، ويمتد إلى تلاميذ الرسل ويستمر من خلال خلفائهم فى كل العصور "الإيمان المسلم مرة للقديسين"(يه3). ومن ثم رجعنا دائماً، وبقدر ما هو متاح، لما كتبه آباء الكنيسة فى القرون الأربعة الأولى، مع عمل مقارنة مع التفسير الليبرالى النقدى على أساس علمى؛ لغوى، كتابى، تاريخى، أثرى، والرجوع لأحدث ما توصل إليه علماء الآثار واللغات السامية القديمة وما كتبه كتاب التاريخ القدماء من أمثال هيرودوتس ويوسيفوس اليهودى وغيرهم.
ولا يفوتنى فى هذه المقدمة أن أتقدم بالشكر الدائم لقداسة البابا المعظم البابا شنوده الثالث الأستاذ والعالم على محبة وتشجيع قداسته الدائم، ولنيافة الأنبا مرقس، أبى الروحى، أسقف شبرا الخيمة وتوابعها، على تشجيع نيافته الدائم ومساعدته لى فى تقديم ما يلزم من مراجع للبحث والدراسة والنشر، كما أتقدم بالشكر أيضا لنيافة الأنبا متاؤس أسقف ورئيس دير السريان العامر على محبة وتشجيع نيافته، وللآباء المباركين بمكتبتى دير العذراء (السريان) ودير الأنبا بيشوى على تعب محبتهم فى تقديم العديد من المراجع القديمة التى أفادت كثيراً فى إخراج هذا الكتاب على هذه الصورة والذى أرجو من الله أن يأتى بالفائدة المرجوة بصلوات وطلبات قديسيه، الذى له المجد الدائم إلى الأبد آمين.
القمص عبد المسيح بسيط
تنبأ أرميا النبى أن الله سيعاقب بنى إسرائيل بسبب خطاياهم بالسبى إلى بابل مدة سبعين سنة "لذلك هكذا قال رب الجنود. من أجل أنكم لم تسمعوا لكلامى هأنذا أرسل فآخذ كل عشائر الشمال يقول الرب... وتصير كل هذه الأرض خراباً ودهشاً وتخدم هذه الشعوب ملك بابل سبعين سنة(1)". وجاء نبوخذ نصر إلى أورشليم لينفذ ما قررته إرادة الله ومشيئته وحاصر أورشليم ثلاث مرات حتى دمرها وأحرق الهيكل.
فى سنة 605 ق.م. أحتل المدينة وسمح للملك يهوياقيم أن يحكم باسمه وكتابع له وخاضع لسلطانه وأخذ بعض كنوز الهيكل وعددا من الفتية "من بنى إسرائيل ومن نسل الملك ومن الشرفاء"(ع3). وكان من ضمنهم دانيال ورفاقه الفتية الثلاثة(2).
وفى سنة 597 ق.م. جاء نبوخذ نصر ثانية وأخذ بقية أوانى الهيكل وكنوزه ونقلهم إلى بابل وأخذ الملك يهوياقيم و 10.000 أمير وضابط ورجل شرطة وجميع الصناع والمهرة ولم يترك فى يهوذا إلا مساكين الشعب. وكان من جملة الذين أخذهم حزقيال الكاهن والنبى(3).
وفى سنة 586 ق.م. جاء للمرة الثالثة ليعاقب صدقيا الملك على تمرده عليه، فحاصر المدينة ثم كسر الأسوار "وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم وكل بيوت العظماء احرقها بالنار(4)"، وبعد أن أحرق المدينة بالكامل قتل أبناء صدقيا الملك وأخر ملوك يهوذا، وقلع عينى صدقيا نفسه وقاده إلى بابل مقيداً بالسلاسل والأغلال(5).
وكان دانيال النبى فتاً صغيراً عندما حملوه إلى بابل أسيرا. وكان من النسل الملكى(6) ومن سبط يهوذا(7) وتربى فى مدرسة الحكمة وقصر الملك ببابل وخدم بأمانة كرجل حكيم وكاشف أسرار ورجل دولة عظيم كانت له مكانته مع كل من ملوك بابل سواء ملوك بابل أو ملوك مادى وفارس. ولم يمنعه وضعه مع حكماء بابل أو كوزير أو والى لبابل أو رئيس وزراء من التمسك بعبادة الله الواحد وحفظ الشريعة مهما كلفه ذلك.
وكان دانيال النبى باراً ورجلاً من رجال الله الأتقياء ورجل صلاة وأُعلنت له رؤى ونبوءات وتعامل مع كثيرين من الملائكة الذى كان على رأسهم الملاك جبرائيل والذى ظهر للمرة الأولى باسمه فى سفر دانيال النبى. وبرغم أنه كان رجل دولة ولم يكن مكرس كنبى إلا أنه أوحى إليه كنبى ورأى رؤى وأحلام كنبى، وحمل رسالة من رسالات السماء فى اشد عصور شعب الله سواداً. من ثم فقد وصفه السيد المسيح ب "دانيال النبى(8)".
وقد تنبأ عن أربع إمبراطوريات عالمية هى؛ بابل، ومادى وفارس، واليونان، والرومان، نبوات تفصيلية، كما تنبأ عن الصراع الذى دار بين ملوك مصر (الجنوب) وملوك سوريا (الشمال) فى الثلاثة قرون السابقة للميلاد، وجاءت نبؤاته دقيقة وتفصيلية حتى أنها تطابقت مع ما كتبه كتاب التاريخ المعاصرين واللاحقين من أمثال هيرودوتس وغيره من مؤرخى عصور ما قبل الميلاد. وهذا ما أذهل الملحدون والعقلانيون والنقاد اللذين لا يؤمنون لا بالوحى ولا بالنبوات ولا بعالم الأرواح وما وراء الطبيعة وجعلهم يهاجمون السفر بكل عنف وقسوة. كما تنبأ عن مجيء السيد المسيح وموته فداء وكفارة للخطايا.
وقد مدحته الملائكة ووصفته ب "الرجل المحبوب" ومدحه معاصره حزقيال النبى الذى نقل إلى بابل فى حصار أورشليم الثانى سنة (597 ق.م.) كما مدحه كل الملوك الذين عمل معهم، فقال له نبوخذ نصر "أنى أعلم أن فيك روح الآلهة القدوسين ولا يعسر عليك سر(9)" وقال له بيلشاصر أخر ملوك بابل "قد سمعت عنك أن فيك روح الآلهة وأن فيك نيره وفطنه وحكمة فاضلة(*)"، وقيل عنه أيضا أنه "فيه روحاً فاضلة" و"كان أميناً ولم يوجد فيه خطأ ولا ذنب(10)". وأشار إليه الوحى فى سفر حزقيال كأحد الأبرار الثلاثة "نوح ودانيال وأيوب(11)" وباهى الله بحكمته ملك صور "هل أنت أحكم من دانيال سر ما لا يخفى عليك(12)".
وكان دانيال النبى مثل يوسف الصديق من جهة اشتهارهما بتفسير الأحلام وعيشتهما فى قصور ملوك مصر وبابل، كما كان كل منهما رئيس وزراء فى بلد غربته(13).
ويعتبر العلماء ورجال اللاهوت والتفسير سفر دانيال كرؤيا العهد القديم والجزء الأول لسفر الرؤيا فى العهد الجديد، كما يوضع السفر أيضا فى منتصف عصور المعجزات الخمسة فى الكتاب المقدس والتى تقسم كالآتى :
1. زمن موسى ويشوع.
2. زمن إيليا وإليشع.
3. زمن دانيال النبى.
4. زمن السيد المسيح.
5. زمن تلاميذ المسيح ورسله.
وكان دانيال النبى قد أُختير ضمن الفتيان الذين أختارهم رئيس خصيان الملك للالتحاق بما يمكن أن نسميه مدرسة الحكمة فى بابل ليتعلم فيها مدة ثلاث سنوات يقفوا بعدها فى قصر الملك. وفى هذه المدرسة تحول اسم دانيال والذى يعنى "الله قاضى" أو "الله ديانى" إلى "بلطشاصر" والذى يعنى "أميربل" من الإله "بل" أو "بعل". وبرغم أنه ورفاقه الثلاثة؛ حنانيا ومعناه "الله حنان" والذى تحول إلى "شدرخ" والذى يعنى "مضى بإله الشمس"، و"ميشائيل" ومعناه "من مثل الرب" والذي تحول إلى "ميشخ" والذى يعنى "من مثل آخ"، أى الإله آخ أو عشتر، و"عزريا" ومعناه "الرب معينى" والذى تحول إلى "عبدنغو" أى "عبدنابو" الإلهى نابوا، إله الحكمة والتعليم فى بابل، قد تحولت أسمائهم من أسماء مرتبطة باسم الله الواحد، إيل، ويهوه، إلى أسماء مرتبطة بأسماء آلهة وثنية، أصنام، إلا أنهم لم يخضعوا لا لديانات بابل ولا للأكل من اطياب الملك وخمر مشروبة. ولم يسجد الفتية للتمثال الذى نصبه الملك نبوخذ نصر ولم يخضع دانيال النبى لشريعة مادى وفارس على حساب شريعة الله، ولما ألقى الفتية فى آتون النار أنقذهم الله وكان معهم ولم تمس النار شعرة من رؤوسهم، ولما ألقى دانيال فى جُب الأسود أرسل الله ملاكه وسد أفواه الأسود. ولم يكسر دانيال ورفاقه أبداً شريعة بابل إلا عندما تعارضت فقط مع شريعة الله، وكان دانيال أشد ولاء أكثر إخلاصاً فى عمله فأحبه كل من عمل معهم من الملوك الذين جلسوا على عرش بابل، وخدم فى قصور بابل ما يقرب من سبعين سنة من بداية حكم نبوخذ نصر (605 ق.م.) إلى السنة الأولى لكورش (539 ق.م.).
(1) أر 8:25،11
(2) 2أخ 6:36،7؛ دا 1:1-3
(3) 2مل 14:24-16
(4) 2مل 9:25
(5) 2مل ص 25
(6) دا 3:1
(7) دا 6:1
(8) متى 15:24
(9) دا 9:4
(*) دا 14:5
(10) دا 3:6،4
(11) حز 14:14
(12) حز 3:28
(13) تك 5:37-9؛ 8:40؛ 25:41؛ دا 24:2؛ 19:4