لا مزيد بعد هذه الإجابات الرائعة. فقط أريد اليوم أن أتناول الأمر من زاوية أخرى وأن أقترب قليلا من طبيعة الشيطان نفسه، ليس حسب الكتاب والآباء ولكن حسب "الديمونولوجي" أو "علم الشياطين"، لعل ذلك يلقي مزيدا من الضوء على هذه القضية الشائكة، ومزيدا من الفهم لما ذهب إليه بالفعل جميع الأحباء. وأبدأ بسؤال بسيط: كيف يرى الشيطان هذا العالم؟
للإجابة عن هذا السؤال يجدر أن نراجع أولا كيف يحدث الإدراك عند الإنسان نفسه: كيف "يرى"، على سبيل المثال، أو كيف "يسمع"؟ كما نعرف جميعا: يرى الإنسان عند اتصال العين من ناحية بذبذبات الضوء من ناحية أخرى. يسمع بالطريقة نفسها: عبر ذبذبات الصوت التي تستقبلها "الأذن". فلو أن العين غير موجودة فإن الإنسان يعيش في الظلام الدامس حتى لو وقف أمام الشمس، وإذا كانت الأذن عاطلة فإنه يعيش في صمت تام ولو كان في قلب الضجيج والصراخ. هذه الحواس إذن هي "بوابات الوعي". العالم بالنسبة لنا مرئي (لوجود العين، ناقذة الرؤية)، ومسموع (لوجود الأذن، نافذة السمع)، وهكذا. ولو أن إنسانا ولد بحاسة واحدة فقط هي "الشم"، مثلا، فإن الوجود بالنسبة له يصير فقط مجموعة من "الروائح". إنه لا يري، لا يسمع، لا يتذوق، لا يشعر بحرارة أو برودة أو بأي ملمس، لا يعرف أن هناك ألوان وأنوار وأصوات وألحان ولا يدرك حتى وجود الأرض والكواكب والمجرات، بل لا يستطيع بالجملة أن يفهم هذه المعاني إطلاقا. كل هذا ليس في "عالمه". إنه يعيش بالفعل في قلب الأضواء والموسيقى، رغم ذلك فالكون بالنسبة له مظلم تماما، فارغ تماما، صامت تماما، فهو فقط "كون من روائح". الوجود نفسه ـ بالنسبة له ـ ليس أكثر من روائح!
وكل هذا معروف، لكن معناه جد خطير في هذا السياق: نحن لا نعرف العالم حقا في ذاته! نحن نعرف فقط ما تسمح لنا به "نوافذ" الحواس الخمسة. بعبارة أخرى: ربما تكون هناك ذبذبات أخرى لا نلتقطها، لأن "الحواس" التي تستطيع التقاطها ليست لدينا، بل ربما هناك آلاف من الذبذبات لا نعرفها، وبالتالي آلاف من "المدركات"، آلاف من الأعماق والآفاق، كلها "هنا" بالفعل، لكننا لا ندركها، بل لا ندرك حتى أنها موجودة! هكذا قد يكون العالم ـ نفس هذا العالم ـ أعظم وأكبر وأغني كثيرا مما نعتقد، وهكذا قد يكون أيضا ـ للسبب نفسه ـ أكثر "زحاما" مما نتخيل!
فهكذا الشياطين أيضا في عالمنا، بصورة تقريبية. تلتقط الشياطين أنواعا من الذبذبات تختلف عما نعرفه نحن البشر، وهي ذبذبات يمكن وصفها بالذبذبات "الشعورية". العالم الذي يعيش فيه الشيطان إذن عالم يختلف كلية عن عالمنا هذا، رغم أنه يشترك معنا في نفس "المكان"!
شيطان "الغضب"، على سبيل المثال، يعيش في عالم مظلم تماما، فارغ تماما، ذلك أن له حاسة وحيدة ـ إذا جاز التعبير ـ هي "الغضب". هذه هي "نافذته" الوحيدة في الوجود، وهذه هي الذبذبة الوحيدة التي يستطيع استقبالها. فإذا غضب إنسان لأي سبب فإن هذا الغضب يظهر في عالم الشيطان كأنه شعلة ضوء ظهرت فجأة في الظلام المطبق، ومن ثم تجذبه بقوة، ويهرول الشيطان نحوها سريعا، ثم ينفخ فيها لتصبح حريقا كاملا، لأن هذا ببساطة هو "الوجود" الوحيد الذي يعرفه والذي يريد استمراره! لهذا يبدأ الغضب في العادة صغيرا، ولكن يصل الإنسان في بعض الحالات لمراحل من العضب يبدو معها كأنه فقد عقله، أو كما نقول "خرج عن شعوره"، حتى أن البعض قد يقتل في حومة غضبه! لماذا؟ التفسير ببساطة ـ حسب هذا العلم ـ أن شيطان الغضب يتملك الإنسان بالفعل ويستولى عليه، ثم ينفخ في نار غضبه حتى يصل به للغاية والمنتهى! حين يهدأ بعد ذلك هذا الإنسان فإننا نجده في الغالب نادما على ما فعل، بل قد يعترف أنه هو نفسه لا يدرك كيف وصل حقا إلى هذه الدرجة من الغضب، أو كيف تهور إلى هذا الحد في سلوكه وكيف ارتكب هذا الفعل أو ذاك أثناء غضبه!
بالمثل شيطان "الغيرة"، يحيا في عالم مظلم تماما حتى يلمح وميض الغيرة يلمع في قلب إنسان، فعلى هذا القلب تجتمع فورا شياطين الغيرة لتشعله حريقا وتبذل كل طاقتها كي لا تنطفئ هذه النار أبدا! وهي كالغضب: قد تقود الإنسان أيضا إلى نوبات من "الجنون" وإلى أفعال أو قرارات تخلو من الحكمة تماما، بل حتى إلى جرائم كما نرى في بعض الحالات، خاصة إذا اجتمعت الغيرة مع الغضب!
بالمثل شياطين الخوف.. الشك.. الحقد.. الحسد.. الطمع....... وهكذا كل الشياطين تقريبا.. مدخلها دائما "المشاعر"، ولذلك ما زالت "المشاعر" حتى اليوم لغزا في علم النفس! البعض بالطبع يعزو الأمر لتفاعلات عصبية كيمائية وكهربية بالمخ، لكنه لا يجيبنا حقا كيف يفقد الإنسان عقله في حمى المشاعر، أو لماذا تحتدم المشاعر حتى تبلغ أحيانا حد التدمير والجريمة. بل أكثر من ذلك لا يستطيع العلم حتى اليوم أن يحدد ـ على نحو حاسم ـ هل تبدأ المشاعر في النطاق الفسيولوجي والكيميائي المادي الملموس بالجسد، أم بالأحرى في النطاق العقلي والنفسي غير الملموس، ببساطة لأن لكلا الرأيين نظرية تؤيده وتدعمه! (هناك بالفعل نظرية تقول إننا نرتعش ـ على سبيل المثال ـ لأننا نخاف، وفي المقابل نظرية معكوسة تماما، تقول إننا نخاف بالأحرى لأننا نرتعش)! على جانب آخر فإن أهل "الطاقة" وعلومها ـ وهي من العلوم الحديثة جدا، والواعدة جدا ـ يؤمنون بوجود هذه "القوى" بالفعل، لكنهم يفضلون لغة أكثر علمية فيسمونها على سبيل المثال "قوى"، أو "طاقات"، أو إذا شئنا الدقة "تكوينات وأنماط Patterns" من الطاقة. أيّا كان الأمر، هذه "التفاعلات" أو "القوى" أو "الطاقات" أو "الأنماط" هي نفسها ما يسميه أهلنا الطيبون البسطاء بـ"الشياطين"! نعم، أيا كان اسمها، الشياطين ظاهرة حقيقية ملموسة نعيشها ونرى أثرها يوميا في العالم رغم أنف ريتشارد داوكنز!
لذلك فإننا بإدراكنا البسيط نقول حتى اليوم في لغتنا عندما نرى شخصا في حالة هياج "راكبه شيطان"، أو نصف عين الغاضب فنقول "عينه بتطق شرر"، بل إن الغاضب الذي أوشك على الانفجار قد يحذر هو نفسه أحيانا الآخرين من حوله صائحا "سيبوني دلوقت، أنا الشياطين بتتنطط قدام عيني"! الحق أن كل هذه الأقوال صحيح تماما، صحيح "حرفيا"، رغم أنها تعبيرات توارثناها ونرددها فقط بقصد المجاز، لا المعنى الحرفي!
لذلك أيضا فإن "ثمر الروح" كله تقريبا يزهر أيضا في مملكة المشاعر: "أما ثمر الروح فهو: محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف"، بل هو "المعزّي" ابتداء! فأغلبها نعم "مشاعر"، وكأن المؤمن يمتلئ ـ عبر مشاعره ـ بنعمة تحجب عنه بالفعل أن يكون فريسة الشيطان، أو حتى في نطاق "وعيه" و"عالمه"!
* * *
الحديث طويل، ويتعمق علم الديمونولوجي بالطبع فيما هو أبعد كثيرا من ذلك. هذه الشياطين في الحقيقة هي الأكثر شيوعا، لكن الشياطين أنواع، وهناك ما هو أكثر من ذلك في درجة الذكاء والوعي وأقرب بالتالي إلى الصورة التي يقدمها الكتاب المقدس (علاوة على أن هناك علم ديمونولوجي خاص بالمسيحية). يجوز وصف هؤلاء من ثم ـ لذكائهم النسبي ـ بـ"الرؤساء والسلاطين وولاة الظلمة"، كما يقول معلمنا القديس بولس الرسول في رسالة أفسس، ونلاحظ أن أهل أفسس تحديدا كانوا مولعين بالسحر وطقوسه وكانوا فيما يبدو أكثر إلماما من غيرهم بأمور الشياطين. لهذا تميزت هذه الرسالة حقا بإشارات روحية خاصة جدا، كما لاحظ كثيرون، حتى أن ف. باور يذكر عام 1835 أنها تحمل أفكارا "غنوسية"، ولكنها ليست حقا غنوسية كما أثبت التحليل الأخير. الحقيقة أنها كانت لمحة أخرى من لمحات عبقرية معلمنا لسان العطر، إذ كشف فيها عن معرفة عميقة جدا بهذا العالم غير المنظور، لكنها معرفة لا يدركها للأسف ويقدرها حق قدرها إلا أهل أفسس فقط، أو مَن أبحر مثلهم طويلا في عالم الروحيات والشياطين!
والخلاصة ـ إذا صدق هذا العلم حقا ـ هي أننا لا نستطيع أبدا أن نقارن من حيث المبدأ بين الشيطان والإنسان، أو أن نسأل بالتالي مثل هذا السؤال. فكما رأينا: الشيطان هو "وعي الشر" ذاته، غضبا كان أو كراهية أو حقدا أو حسدا أو طمعا أو كبرياء أو غيرها من شرور. هل يمكن أن يكون لمثل هذا خلاص؟ لا تختلف فقط رؤية الله وتدبيره لخليقته ـ وهي أكوان في أكوان وعوالم داخل عوالم ـ بل إن "الوعي" الشيطاني نفسه يختلف بالكلية عن وعي الإنسان، كما يختلف العالم الذي يعيش فيه الشيطان أيضا بالكلية عن عالم الإنسان! إنهما يختلفان من الناحية "الوجودية" نفسها، وإن عاشا معا في "مكان" واحد، بالضبط كما أن الله في كل مكان، في كل ذرة في الوجود، لكنه يختلف "جوهريا" عن كل شيء وعن كل موجود!
أما خير الختام فهو الوصية أن ننتبه لمشاعرنا، السلبية خاصة، لأننا قد نكون بها أسرى للشياطين، عبيدا لها، تحكمنا وتوجهنا ونحن لا نشعر! إن المشاعر لا شك ملمح إنساني أصيل، حتى السلبي منها، ولكن ما يجب الانتباه له هو الإفراط في الشعور حين يكون سلبيا، حين يمتلئ الإنسان مثلا بالغضب، أو بالغيرة أو الحقد، أو حتى بالحزن. أصلي أن يزهر ثمر الروح في قلوب الجميع وأن تشرق حياتكم دوما بالفرح والسلام والمحبة.
* * *