سيرة القديسة إيلارية Hilary التي تحتفل الكنيسة بعيد نياحتها في الحادي والعشرين من طوبة، مع سيرة القديسة أبوليناريا تمثلان صورة حية لانفتاح القلب على أمجاد السماء فيترك الإنسان كل مجد بشري من أجل الملكوت الأبدي، وتمارس حتى الفتيات الناشئات في قصور الملوك نسكًا يصعب على كثير من الشباب احتماله. إنها محبة الله النارية التي تلهب القلب فتهبه قوة فائقة، وتعطي صاحبه قدرة للعمل الروحي العجيب! نشأتها قيل أنها نشأت في الربع الأخير من القرن الخامس الميلادي، بكونها الابنة الكبرى للملك زينون، وأختها الصغرى تدعى ثاؤبستا. نشأت في حياة تقوية تمارس نسكها الخفي وتدرس الكتاب المقدس، فمال قلبها للبتولية وتكريس حياتها للعبادة. في أحد الأيام إذ مضت إلى الكنيسة سمعت كلمات الرسول بولس عن موسى الذي بالإيمان أبى أن يُدعى ابنًا لابنة فرعون، مفضلاً بالحري أن يُذل مع شعب الله عن أن يكون له تمتع وقتي بالخطية (عب24:11-26)، فالتهب قلبها بالحنين إلى ترك القصر لتمارس حياة العبادة الخفية. وبالفعل في اليوم التالي تزينت بزي سعاة الملك وشدت وسطها بمنطقة وانطلقت إلى البحر متجهة إلى الإسكندرية، وكانت قد بلغت الثانية عشر من عمرها. هناك تباركت من كنيسة القديس بطرس خاتم الشهداء وكنيسة مار مرقس الرسول ثم سألت أحد الشمامسة أن يذهب معها إلى دير شيهيت مقدمة له مبلغًا للإنفاق على الرحلة، بينما كان الملك يبحث عنها بمرارة ولا يجدها. في دير القديس مقاريوس تحدث معهما القديس بمويه، ثم سألته إيلارية أن يقبلها في الرهبنة دون أن تكشف له عن أمرها، فأجابها أن تذهب إلى دير الزجاج لتترهب هناك، قائلاً لها: "أراك ابن نعمة، وقد اعتدت على عيشة الترف، وهذا الموضع صعب عليك لقلة العزاء الجسدي." أصرت إيلارية على طلبها فقبلها الأنبا بمويه، ثم سلمت أموالها للشماس ليقدمه للأب البطريرك لخدمة الفقراء. اختبر الأب بمويه القديسة إيلارية وإذ رأى مثابرتها وجهادها البسها الإسكيم بدعوتها "الراهب إيلاري"، وأسكنها في قلاية جنوب الكنيسة قليلاً، وكان يفتقدها مرتين كل أسبوع يرشدها ويدربها على الحياة النسكية. بقيت في جهادها سبع سنوات، وكان الرهبان يدعونها "الراهب الخصي" بسبب رقة صوتها وعدم ظهور لحية، وفي أحد الأيام أخبرها القديس بموية أن الله كشف أمرها بكونها ابنة الملك وسألها أن تبقى هكذا لا تبح أمرها لأحد قط. مرض أختها إذ مرضت أختها ثاؤبستا بمرض عضال حار فيه الأطباء تمررت نفس الملك الذي فقد ابنته الكبرى وها هو يفقد أختها، فأرسلها إلى برية شيهيت ليصلى من أجلها الآباء النساك، وإذ كان الراهب إيلاري قد عُرف بالتقوى طلب الشيوخ بعد صلاتهم على ثاوبستا أن تُحمل إلى قلايته ليصلي عليها، فلم تترد إيلارية، بل بسطت يديها وكانت تصلى بدموع وهي تقبل أختها، فتحنن الله عليها وشفاها، فمجد الآباء الله. عادت الأميرة لتخبر الملك بعمل الله معها وتعب الشيوخ من أجلها خاصة الأب إيلاري، وروت له كيف كان يبكي بدموع ويقبلها ويرقد بجوارها، الأمر الذي أدهش الملك وساوره الشك. فكتب إلى الأب بمويه يطلب منه أن يرسل إليه الراهب إيلاري ليباركه هو ومملكته. في القسطنطينية تحت إلحاح الآباء اضطر إيلاري أن يذهب إلى القصر الذي استقبله الملك والملكة وكل رجال البلاط بحفاوة وفرح عظيم. انفرد الملك بالراهب يسأله كيف يمكن لراهب أن يقّبل فتاة ويرقد بجوارها، عندئذ طلب الراهب منه أن يتعهد له ألا يعوقه عن العودة فتعهد بذلك. عندئذ سالت الدموع من عيني الراهب وهو يرتمي على صدر الملك، ويقول: "أنا ابنتك إيلارية!". لم يحتمل الملك الخبر فصار يعانقها، ونادى الملكة ليبشرها بالخبر، وتحولت حياتهما إلى فرح شديد، وبقيت ابنتهما معهما ثلاثة أشهر لتعود فتذكر أبيها بالوعد. عاد الراهب إيلاري ومعه خيرات كثيرة للدير، وقد قضى خمسة أعوام في نسكه وتقواه حتى افتقده الرب بمرض ليرقد في الرب بعد رشم علامة الصليب على وجهه، وكان ذلك في 21 من شهر طوبة. دفنها الأنبا بمويه بملابسها كطلبها وأعلن خبرها للرهبان الذين تعجبوا لعمل الله الفائق في حياتها. بركة صلاتها تكون معنا، أمين.
كثيرون يتحدثون عن القديس إيلاريون أو هيلاريون Hilarion بكونه تلميذ القديس أنبا أنطونيوس الذي نجح في تأسيس الحركة الرهبانية في كل فلسطين. أما القديس جيروم الذي سجل لنا سيرته فقال: "إن كثيرين عظموا فيه نسكياته وغيرهم دهشوا أمام العجائب التي أجراها الله على يديه، وآخرون بهتوا من الحكمة التي تزين بها، وآخرون أُعجبوا بسائر فضائله، أما أنا فلا أعجب من شئ من كل هذا كما أعجب منه كيف كان يحتقر المجد الزمني رغم ما كان يحيط به من التمجيد والإكرام في كل وقت وفي كل موضع. كان الأساقفة والكهنة والرهبان والحكام والقضاة والولاة وأكابر الشعب يذهبون إليه، يطلبون إرشاده وبركة ودعاء، أما هو فكان يعمل ما بوسعه ليختفي ويتواري عن الأبصار. ولهذا هرب من بلاد المشرق إلى بلاد المغرب، مختبئًا تارة في مكان، وتارة في غيره، حتى في الأماكن الجرداء الصخرية التي لا يأوي إليها إنسان". نشأته "إيلاريون" معناها "بهيج". ولد في قرية طاباتا جنوب غزة حوالي عام 292م، من والدين وثنيين، أرسلاه إلى الإسكندرية لينهل من المعرفة الفلسفية والعملية، فإذا به يلتقي بعلماء أغلبهم من المسيحيين، فقاده روح الله إلى الإيمان بالسيد المسيح واعتمد في الخامسة عشرة من عمره تقريبًا. كان إيلاريون محبًا للصلاة والعبادة في شئ من النسك، وإذ سمع عن القديس أنبا أنطونيوس وضع في قلبه أن يتبرك منه ويسمع تعاليمه. وبالفعل التقى به فرآه كملاك الله، وتتلمذ على يديه. لكن كانت الوفود تتقاطر على القديس أنبا أنطونيوس، فاستأذنه إيلاريون أن يترك مصر ويذهب إلى فلسطين ليعيش في جو من الخلوة بعيدًا عن الأنظار. إيلاريون الناسك وجد إيلاريون أبويه قد تنيحا وتركا له ميراثًا ضخمًا، فأعطى منه جزءًا لاخوته ووزع الباقي على الفقراء، وذهب إلى قفر في نواحي مايوما Majuma وأقام هناك وهو بعد شاب. كان يلبس قميصًا من المسوح فوقه ثوب خشن، والإسكيم الجلدي الذي أعطاه إياه أنبا أنطونيوس، وكان يأكل مرة واحدة كل يوم بعد الغروب. يقوم بفلاحة الأرض وعمل السلال كما تعلم في مصر حتى لا يحتاج أن يعوله أحد، بنى قلاية له كانت لأقرب إلى المقبرة منه إلى بيت، كانت قائمة في أيام القديس جيروم. داهمه اللصوص يومًا حاملين أسلحتهم، فوجدوه راكعًا يصلي، لا يعطهم اهتمامًا. سألوه: "ألا تخاف بطشنا؟"، أجابهم: "من لا يملك شيئًا لا يخاف بأسًا. قالوا: "نقتلك"، أجاب: "إني لا أخاف الموت فإني مستعد له.." وإذ تلامسوا مع إيمانه الحق امتلأوا خوفًا وتابوا على يديه. هاجمه عدو الخير تارة على شكل نساء ليفسد طهارة فكره وأخرى على شكل وحوش مفترسة ليرعبه لكنه كان يتسلح بالصلاة ورسم علامة الصليب ليحيا في سلام الله. عجائب الله على يديه في مدينة الفتروبوليس (بيت جيران بجوار حبرون) وُجدت امرأة شريفة عاقر، جاءت إليه تسأله الصلاة من أجلها ليهبها الله ابنًا، وإذ أخذ يجري تاركًا إياها لحقته وهي تبكي بدموع مرة، فتحنن عليها وباركها، قائلاً لها: ثقٍ يا ابنتي إن الله قد استجاب طلبتك. وفي السنة التالية جاءته تحمل رضيعها، فذاع هذا الخبر في تلك الأرض. تكررت أعمال الله الفائقة معه، فتحولت الجماهير إليه تطلب صلواته، بل وعلى يديه آمن كثيرون من الوثنيين، وبدأ بعض المؤمنين التتلمذ على يديه. أب الرهبان تكاثر عدد الرهبان حوله فبنى لهم أديرة، وكان أبًا للجميع يفتقد كل دير مرة في السنة يرشد الرهبان ويثبتهم، فتزايدت الأعباء عليه، خاصة وأن الجماهير ازدحمت حوله. شعر القديس إيلاريون بالروح بنياحة أبيه أنبا أنطونيوس، وكان عمره في ذلك الوقت حوالي 65 عامًا. تألم القديس إيلاريون بسبب ازدحام الناس حوله، إذ قال: "لقد عدت إلى العالم، ونلت مكافأتي في هذه الحياة. كل فلسطين نحوي، وصار لي حقل ومقتنيات تحت ستار احتياجات الأخوة!"، لذلك قرر أن يترك الموضع، وإذ حاول الكل منعه صام سبعة أيام لا يأكل ولا يشرب فتركوه ليأخذ بعض تلاميذه وسار معهم في القفر وهو صائم حتى الغروب. جاء إلى مصر، وذهب إلى جبل أنبا أنطونيوس، وسأل عن موضع دفنه، لكن يبدو أنه لم يستطع معرفته إذ كان الأمر مشددًا من قبل الأنبا أنطونيوس ألا يعرف أحد موضعه، حتى لا يسرقه غني ويبني عليه كنيسة. عاد الأنبا إيلاريون إلى أفروديتبوليس (أتفاح Atfiah)، وعاش في البرية هناك في سكون وهدوء، لكن اشتم الكثيرون فيه رائحة المسيح الذكية، وجاءت الجموع تطلب صلواته وإرشاداته. عندئذ عزم أن يهرب إلى موضع لا يعرفون فيه لغته، فركب البحر مع تلميذ له، وانطلق إلى جزيرة صقلية. قدم إنجيله الذي كان قد نسخه لربان المركب إذ لم يكن معه الأجرة، لكن الربان تركه له لما رأى فقره وقداسة حياته. في صقلية عاش هناك في غابة يجمع حطبًا مع تلميذه ليبيعه ويعيشان من الثمن، لكن "الحياة المقدسة في الرب" لا يمكن أن تختفي، فحمل الناس مرضاهم وجاءوا إليه يطلبون صلواته، بل وجاء الأساقفة والكهنة يسألونه الصلاة عنهم، فخاف على نفسه وركب سفينة وانطلق إلى قبرص مع تلميذه إيزيكوس. هناك ذاع صيته وتجمع الناس حوله، وكان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، فاضطر أن يبحث عن مكان هادئ، وإذ أرشده الله إلى صخرة كبيرة يصعب الصعود إليها، صعد وانفرد هناك فوجد تعزية كبرى. جاءه صاحب الأرض يحمل إليه ابنه المقعد فشفاه باسم السيد المسيح، فجاءت إليه الجماهير، وإذ كان يصعب صعودهم بالمرضى كانوا يقدمون لهم زيتًا قد صلى عليه. بقى حوالي خمس سنوات على هذه الصخرة حتى بلغ الثمانين، وإذ اعترته حمى شديدة أخذ يصلي ويقرع صدره حتى أسلم روحه الطاهرة في يدي الرب، في 24 بابة.
استشهدت هذه الفتاة البتول الأسبانية في أيام الإمبراطور دقلديانوس (10 ديسمبر 303م) ومعها خادمتها جوليا. قدم الشاعر الأسباني برودينتيوس قصيدة شعرية في أواخر القرن الرابع يعبر فيها عن حياتها واستشهادها. فقد نشأت في أسرة شريفة بميريدا Merida بأسبانيا. كان عمرها حوالي 12 سنة حين صدر منشور دقلديانوس باضطهاد المسيحيين. إذ رأت والدتها شوقها الملتهب نحو الاستشهاد حملتها معها إلى إحدى القرى، لكنها استطاعت أن تهرب ليلاً، وتقدم نفسها للقاضي داسيان. حاول القاضي استمالتها بكل الطرق فلم يفلح، صار يهددها مظهرًا لها أدوات التعذيب فازداد ثباتًا في الإيمان، طلب منهم مجرد أن تلمس بأطراف أصابعها ملحًا وبخورًا يقدم للأوثان فرفضت. عندئذ أمر بتمزيق جسدها بمخالب حديدية، وإشعال النار عند جنبيها. أشعلت النيران في شعرها وكل جسدها، لكن الله أرسل بردًا أطفأ النار، فهرب الجند بينما حمل المسيحيون جسدها.
كان صديق للقديس جيروم، التقيا معًا في اكيلجا Aquileja ورافقه رحلته في تراس وبيثينيه وبونتس وغلاطية وسوريا. وإذ عاد إلى إيطاليا رُسم أسقفًا على أليتونا واشترك في مجمع أكويلا عام 381، حيث قاوم الأريوسية بغيرة وحماس. طلب إيلودورس والأسقف خروماتيوس Chromatius of Aquileja من القديس جيروم أن يترجم الكتب المقدسة من الكلدانية إلى اللاتينية، وقد قدم لهما القديس سفر طوبيا الذي ترجمه كطلبهما.
جاء عنه في البستان: قال بعض الشيوخ في مصر للأنبا إيليا أن الأنبا أغاثون أب صالح. أجابهم: "هو صالح في جيله"، فسألوه: "ماذا إن قورن بالأقدمين؟؟"، أجاب: "قلت لكم إنه صالح في جيله، ولكن بالنسبة للأولين فإنني أقول لكم رأيت في الإسقيط إنسانًا يقدر أن يوقف الشمس في السماء كما فعل يشوع بن نون تمامًا". فلما سمعوا هذا ذهلوا ومجدوا الله. إني أفزع من ثلاثة أشياء: من وقت خروج نفسي من جسدي، ومن لقاء الله، ومن خروج القضية علىّ؟ ما قوة الخطية عندما توجد التوبة؟؟! وما نفع المحبة عندما يظهر الكبرياء؟؟! يفكر الناس إما في خطاياهم أو في يسوع أو في البشر! إن لم تسبح الروح مع الجسد يكون تعبنا باطلاً، لأن من يحب المتاعب إنما لينال الفرح والسلام بعد ذلك. قال أيضًا: "كان شيخ يعيش في معبد للأوثان، فجاءته الشياطين تقول له: "أرحل من هذا الموضع فإنه موضعنا". أجابهم: "ليس لكم موضع خاص بكم". فصارت الشياطين تبعثر سعف النخل الذي له وكان هو يجمعها بصبر. بعد قليل أمسك الشيطان بيد الشيخ وسحبه إلى الباب وإذ بلغ الباب أمسك باليد الأخرى مغلاق الباب وصرخ: "يسوع، خلصني"، وللحال هرب الشيطان. ثم بدأ الشيخ يبكي، فسأله الرب: "لماذا تبكي؟؟" أجابه: "لأن الشياطين تتجاسر، وتمسك بإنسان وتفعل به هكذا". فقال له الرب: "لقد كنت متقاعسًا، ولكن لما طلبتني كنت بجوارك." "قلت هذا لأننا في حاجة إلى تعب شديد، وبدون تعب لا يقدر أحد أن يأتي إلى إلهه الذي صلب عنا".
التقى القديس جيروم بكاهن يدعى إيليا، في صحراء أنتينوه (أنصنا) بمنطقة طيبة. كان هذا القديس قد بلغ 110 عامًا، اعتاد الرهبان أن يقولوا بأن روح إيليا استقرت عليه. كان هذا الطوباوي مشهورًا في البرية، عاش فيها سبعين عامًا، وكما يقول القديس جيروم إنه لا توجد كلمة يمكن أن يعبر بها عن قسوة الحياة في هذه البرية، وفي الجبل الوعر الذي عاش فيه هذا الكاهن. وكان الوصول إليه صعبًا للغاية، إذ عاش في مغارة تحت صخرة. كان منظره مهوبًا للغاية، يصنع آيات وأشفية كل يوم بلا انقطاع. اعتاد في شيخوخته أن يأكل ثلاث أوقيات خبز كل مساء وثلاث زيتونات، أما في شبابه فكان يأكل مرة واحدة فقط في الأسبوع.
حدثنا القديس بالاديوس في إيجاز شديد عن هذا المتوحد الذي كان يعيش في مغارة بمنطقة الأردن، كان يعيش في حياة مقدسة عجيبة وعفة. في أحد الأيام جاءه عدد كبير من الأخوة لزيارته، إذ كانت مغارته قريبة من الطريق، ولم يكن لديه سوى ثلاثة أرغفة. فصلى إلى الله وقدم هذه الخبزات القليلة لعشرين ضيفًا فأكلوا وشبعوا وبقى رغيف، بارك الله فيه فكان يأكل منه لمدة خمسة عشر يومًا.
وقد كان قديسا ذا معجزات منها انه اثناء صلاته القداس الالهي يوم عيد مار بقطر بالجيزة، وفى منتصف القداس رأى الاسقف نورا عظيما على صورة السيدة العذراء التي في الهيكل، وشاهده بعده كثيرون من المصلين
يمكن تمييزه عن بقية الآباء الحاملين لذات الاسم بأنبا إيلياس بجبل بشواو أو جبل اللبخة. كان والده من قرية إسخيم شرقي النيل، وقد نشأ محبًا للحياة الزاهدة التأملية، مع قدرة فائقة على التعلم. ترهب بدير في جبل شامة، حيث حفظ 30 سفرًا من الكتاب المقدس عن ظهر قلب، وكان يتلو المزامير في صلواته باسطًا يديه بلا حركة لتنساب دموعه بلا توقف، الأمر الذي كان يدهش تلاميذه. أضنك جسده جدًا، زاهدًا لكل أمور العالم وكراماته، فكان كثيرًا ما يترك الدير ليقطن وسط المقابر، وقد وهبه الله عطية شفاء المرضى وإخراج الشياطين. له تلميذان أحدهما يوحنا الذي كان يحب معلمه جدًا ويكرمه لكنه لم يكن يحتمل السكنى معه وسط المقابر، فكان يتركه ليعيش في الدير. أما الآخر فيدعى يوساب كان أحد أبناء أشراف قفط، توفى والده وهو صغير فاهتمت به أمه وأرضعته لبن الإيمان الحي لتتركه وهو صبي صغير يبكي بين يديها وهو يراها في أنفاسها الأخيرة تحتضر، أما هي ففي إيمانها بالكاد نطقت كلمات قليلة مملوءة تعزية تسند صبيها وتؤكد له أن يدّي السيد المسيح نفسه الذي يرعاه، وهكذا أسلمت الروح دون أن تفقد سلامها بسبب بكائه. اهتم به أخوه الأكبر، وإذ كانا بجوار المقابر سمعه القديس إيلياس وهو يقرأ في سفر أشعياء بصوت روحي رخيم، فأعجب به جدًا، واشتاق لو أن الرب يهبه قلبًا مكرسًا له بالتمام. وفي الليل إذ صلى من أجله رأى كأن نخلة صغيرة نبتت في الموضع الذي كان يوساب الصبي جالسًا قد نمت وجاءت بثمر كثير، ففرح وتعزى. بعد فترة مرض يوساب مرضًا شديدًا احتار فيه الأطباء، أخيرًا أحضروه إلى القديس إيلياس الذي صلى لأجله فشفي باسم ربنا يسوع في الحال، فالتصق يوساب به وتتلمذ على يديه، وكان يمتثل بمعلمه في كل شئ خاصة في حبه للعبادة وزهده للعالم، فأحبه معلمه من أجل نعمة الله التي تجلت في حياته. مرض يوساب، اشتد به المرض جدًا حتى رقد في 5 هاتور، وقد تأثر بذلك معلمه، الذي قال للحاضرين وهم يدفنوه: "أوسعوا القبر ليتسع لاثنين"، فأدركوا أن أيام إيلياس قد قربت للغاية مما زاد حزنهم، وبالفعل مرض القديس إيلياس واشتد به المرض، فاجتمع حوله الرهبان يطلبون بركته، وإذ اتجه بوجهه نحو الشرق صلى لله ثم رشم نفسه بعلامة الصليب ليسلم الروح في 17 كيهك. نبيل سليم: سيرة الأنبا اندرآس وقديسى جبل الأساس الجديد، 1970.
نشأته: قصته تكشف عن الصداقة التي يمكن أن يرتبط بها المؤمنون مع الملائكة، بكونهم خليقة الله العاقلة المحبوبة في الرب. ولد إيلياس بقرية بظاهر الفيوم من أبوين مسيحيين محبين لله، وكانا يقدمان وليمة ضخمة للفقراء والمحتاجين في عيد القديس إليشع النبي، كما كانا يفعلان ذات الأمر شهريًا، وغالبًا في عيد رئيس الملائكة ميخائيل، كعادة الكثير من الأقباط إلى وقت قريب، إذ اتسم عيد الملاك الشهري بالعطاء للمساكين والشركة معهم في وليمة واحدة. كان الوالدان متألمين لعد الإنجاب دون أن يفقدا سلامهما الداخلي، واثقين أن الله يدبر أمورهما حسب إرادته الصالحة. وفي أحد الأيام شاهدا شيخين يسيران داخل البيت ويباركانه، فعرفا أنهما القديسان إيليا وتلميذه اليشع، ففرحا بهما جدًا. لم يمض وقت طويل حتى ظهر لهما رئيس الملائكة ميخائيل في شكل راهب يبشرهما بأن الله يهبهما طفلاً يسمونه إيليا ويحمل ذات سماته. وبالفعل أعطاهما الله هذه العطية، وقد نشأ محبًا للعلم، ذكيًا تواقًا لحياة الهدوء والعبادة.
حياته الديرية: سمع عن راهب متوحد في البرية فانطلق إليه، وكاشفه بكل ما في قلبه، معلنًا له رغبته في أن يتتلمذ على يديه. في حكمة الشيوخ أرشده أن يبدأ بالحياة الديرية وسط الإخوة ويتدرج من حياة الشركة إلى الوحدة، ناصحًا إياه أن يذهب إلى دير القديس باخوميوس ببافو، بالصعيد الأقصى. انطلق نحو الدير، وإذ برئيس الملائكة ميخائيل يظهر له متخفيًا ليرافقه حتى بلغ به باب الدير. عاش إيلياس في محبة صادقة لله انعكست على حياته مع إخوته فكان يخدم الكل بوجه باش ونفس متهللة، وإذ كان ميل الوحدة يتزايد في قلبه انطلق إلى جبل شامة وأقام سنتين، ثم ذهب إلى جبل بنهدب وأقام فيه أيامًا، وانحدر إلى جبل هو بالقرب من نجع حمادى، ومنه انطلق إلى جبل فرشوط ليسكن هناك. عاش حياة الوحدة في شركة عميقة مع الله، وكان عدو الخير يحاربه بطرق كثيرة، وكان الله يرسل له رئيس الملائكة ميخائيل يسنده ويشجعه.
أسقفيته لا نعرف كثيرًا عن القديس إيلياس أو أو إيليا هالياس أسقف المحرق والقوصية بأسيوط. في أثناء أسقفيته جاءه إنسان فقير يشكو إليه من كاتب القوصية، غالبًا مدير الديوان والمسئول عن جمع الجباية، وإذ كان الوقت ليلاً لم يستطع الأسقف أن يسترح بل انطلق إلى هذا الأرخن، وفي حزم مملوء محبة بدأ يوبخه على تصرفه مع هذا المسكين، ففتح الرب قلب الأرخن ورد للمسكين ما قد ظلمه فيه بل أكثر، واعتذر للأب الأسقف على ما صدر منه، وصار يسلك بحب ورحمة، مهتمًا بكل إنسان متضايق طوال فترة وجوده في دار الولاية. استشهاده إذ كان لهذا الأسقف شهرته بسبب عطية الله له من شفاء للمرضى وإخراج للشياطين، استدعاه أريانا والي أنصنا وطلب منه التبخير للأوثان، فرفض، وعندئذ صار يعذبه وأخيرًا قطع رأسه لينال إكليل الاستشهاد، في 20 من كيهك. في أيام الأنبا قسطنطين أسقف أسيوط في القرن السادس أقيمت كنيسة على رأس القديس، بركة صلواته تكون معنا آمين.
نشأ هذا الشاب إيلياس في قرية أهناس، وكان ناظرًا على بساتين أمير المنطقة كلسيانوس Culicanos وكان وثنيًا. كان هذا الشاب إنسانًا تقيًا محبًا لله، يلتقي بخاله الراهب المتوحد في الصحراء يطلب إرشاده وبركته. اتسم الشاب برقة شديدة في المعاملة ولطف حتى أحبه الأمير وكل أسرته وتعلقوا به، وإذ كان للأمير ابنة تعلق قلبها به والتهبت الشهوة في داخلها، فصارت تلاطفه وتمازحه، مشتاقة أن يسقط معها في الخطية، أما هو فإذ شعر بحيل عدو الخير كان يلقى الفاكهة ويهرب كمن يبتعد من النار. يبدو أن الفتاة صارت تلاحقه وتضيق عليه، ففي بساطة خصي نفسه لينزع عنها كل أمل، وبصنعه هذا مرض. علمت الفتاة بذلك فاغتاظت، وشكته لوالدها أنه يود الاعتداء عليها. أمسك به الأمير وصار يوبخه، كيف يصدر منه تصرفات كهذه رغم ثقته هو وكل عائلته فيه، وطلب منه أن يذبح للأوثان فيعفو عنه. وإذ رفض، صار يعذبه، فظهر له ملاك الرب وصار يقويه. أخيرًا قطع الأمير رأسه في 28 من شهر طوبة، وقد بنى له المؤمنون كنيسة في أهناس.
إذ ثار الاضطهاد في عهد دقلديانوس ألقى والى حمص القبض على أسقف المدينة القديس سلوانس الذي رعى شعب الله كأسقف لمدة حوالي 40 عامًا بأبوة صادقة، كما قُبض على الشماس لوقا والقارئ موكيوس واقتيدوا معًا إلى حيث يُقدمون طعامًا للوحوش. فجأة رأى الجند الطبيب إيليان يأتي ليركع أمام الثلاثة ويقبل أيديهم مشجعًا إياهم بل ومهنأ لهم على إكليل الاستشهاد، فألقى الجند القبض عليه. كان إيليان هذا الذي وُلد في حمص طبيبًا تقيًا، متفانيًا في خدمة ربنا يسوع، يحب المرضى بكل قلبه لذا أحبه الوثنيون كما المؤمنون، فكان بركة للكل، يهتم بشفاء النفوس كما الأجساد، مكرسًا حياته لخدمة الكل خلال عمله بروح تقوى محب. إذ قُبض عليه ألقى في مغارة وصاروا يستدعونه ويعذبونه وأخيرًا ثقبوا يديه ورجليه ورأسه بالمسامير حتى أسلم روحه الطاهرة في يدي الله. لا زال في حمص توجد كنيسة أقيمت على مقبرته تحمل اسمه، ويتبارك الكثيرون منه حيث تجرى عجائب الله بصلواته.
يروي لنا القديس بالاديوس عن حياة كاهن راهب بجبل الزيتون، يدعى إينوست، عاش معه ثلاث سنوات، وقد اتسم بالبساطة الشديدة جدًا حتى كان يقوم بأعمال تبدو شاذة. كان إينوست من رجال البلاط أيام الإمبراطور قسطنطيوس، تزوج وكان له ابن يدعى بولس صار يعمل معه في البلاط الملكي. يبدو أن هذا الابن انحرف إلى الشر فاعتدى على ابنة كاهن، وإذ سمع والده إينوسنت تمررت نفسه فيه حتى طلب من الله أن يسمح لابنه أن يهاجمه شيطان ولا يسقط تحت الزنا، وقيل أنه بالفعل صار به شيطان (ربما إلى حين لتأديبه). رأي أمًا تبكي على إبنها الشاب الذي كان مفلوجًا وبه روح شرير، فتأثر جدًا، وأخذ الشاب إلى الهيكل الذي بناه بنفسه واحتفظ فيه ببعض رفات للقديس يوحنا المعمدان، وصار يصلي من الثالثة حتى التاسعة ثم أعاده معه إلى أمه معافى من الشلل وخرج منه الروح الشرير. قيل أن امرأة عجوز كانت تبكي لأنها فقدت خروفها، فسار وراءها يسألها عن المكان الذي أضاعت فيه الخروف، فاقتادته إلى مكان قريب من بيت عنيا. وقف ليصلي بينما كان الشبان الذين سرقوه قد ذبحوه أخفوا اللحم في كرم حتى لا ينكشف أمرهم. وفيما هو يصلي إذا بغراب ينزل من الجو ويخطف قطعة من اللحم ويطير بها، فعرف إينوسنت مكان اللحم، وذهب إلى هناك، عندئذ ارتعب الشبان وجاءوا إليه معترفين بما ارتكبوه مقدمين ثمن الخروف للعجوز.
يروي لنا بستان الرهبان قصة سبعة أخوة -حسب الجسد كما حسب الروح أيضًا- عاشوا معًا بروح الحب، مثالاً حيًا لحياة الشركة، هم الأنبا أيوب (أنوب) والانبا بيمين وأخوتهما.
في بربا (معبد) الأصنام: قيل أنه إذ هاجم البربر الإسقيط وخربوه انتقل هؤلاء الأخوة معًا إلى موضع آخر يدعى "إبرين"، ومكثوا معًا في معبد للأصنام. أراد الأخ الأكبر أن يقدم لهم درسًا في بدء حياتهم الرهبانية معًا، فقال للأنبا بيمن أمام بقية الأخوة: "لنصمت جميعًا كل من ناحيته، ولا يتحدث أحد مع أخيه كلمة البتة، وذلك لمدة أسبوع". فأجابه أنبا بيمن: "لنصنع كما أمرت"، وفعل الكل كذلك. كان في ذلك الموضع صنم من الحجر، فكان أنبا أيوب يقوم في الصباح يردم وجه الصنم بالتراب، وفي المساء يقول له اغفر لي. وهكذا كان يفعل طوال الأسبوع. فلما انقضى الأسبوع قال أنبا بيمن لأنبا أيوب: "لقد رأيتك يا أخي خلال الأسبوع تقوم في الصباح وتردم وجه الصنم، وعند المساء تقول له: اغفر لي. أهكذا يفعل الرهبان؟!". أجاب أنبا أيوب: "لما رأيتموني أردم وجهه، هل غضب؟؟" قال: "لا". فقال: "ولما تبت إليه، هل قال: لا اغفر لك؟". قال: "لا". فقال أنبا أيوب لأخوته: "ها نحن سبعة أخوة، إن أردتم أن يسكن بعضنا مع بعض فلنصر مثل هذا الصنم الذي لا يبالي بمجد أو هوان، وإن لم تؤثروا أن تكونوا هكذا فها أربعة طرق أمامكم، ليذهب كل واحد حيثما يشاء." فاختاروا أحدهم ليهتم بالمائدة، وكل ما كان يقدمه لهم يأكلونه. وكان أنبا يعقوب يدربهم في أعمال أيديهم، أما أنبا بيمين فقد كان معلمًا لهم في طريق الفضيلة. وهكذا اجتاز الاخوة أيامهم بسلام. عُرف أيضًا أنه متى جاء أحد إلى أنبا بيمين (بومين) يطلب مشورته، يرسله لأخيه أيوب، قائلاً: "هذا أكبر مني"، وإن جاء أحد إلى أنبا أيوب يرسله إلى أخيه بيمين، قائلاً له: "أذهب إلى أخي بيمين فإنه قد وهب هذه الموهبة". بهذا عاش الاثنان بروح الإتضاع يقدم أحدهما الآخر في الكرامة. اعتاد أنبا أيوب أن يقول: "منذ حلّ علّى اسم المسيح لم تخرج قط كلمة بطالة من فمي". يمكننا أيضًا أن ندرك كيف عاش هؤلاء الأخوة معًا لا يقبلون عطية من إنسان بل يعملون بأيديهم ليعيشوا بالتعب، مهتمين بالعطاء أكثر من الأخذ، فقد قيل أن تاجرًا غنيًا كان يشتاق أن يقدم عطية محبة للأنبا بيمين وأخوته، لكنهم كانوا يرفضون ذلك تمامًا. وفي إحدى المرات إذ جمعوا عمل أيديهم وأرسلوه للبيع ولم يجدوا مشتريًا، فأسرع أحد المحبين يخبر التاجر بما حدث، ففرح التاجر جدًا، وأحضر جملاً، وتظاهر أنه محتاج إلى عمل أيديهم ليقدم لهم الثمن. وما أن أخذ التاجر أعمالهم اليدوية ورحل حتى جاء شخص ليقول وسط حديثه بأن التاجر قد أخذ هذه الأشياء ولا حاجة له بها. ما أن سمع أنبا بيمين ذلك حتى قال للأنبا أيوب: "لنسرع ونحضر الجمل وإلا فلن أبقى في هذا الموضع." وبالفعل أسرعوا إلى التاجر، وبصعوبة قبل التاجر أن يعود بجمله ويسترد ماله، وإذ رأى الأنبا بيمين الجمل فرح جدًا كمن وجد كنزًا عظيمًا.
إنها قصة شهيد روماني يشهد لمسيحه واهب القيامة وهو في طريقه للموت! يوجد في متحف اللاتيران جزء من قبرية (كتاب على قبر) وجدت في Rignano التي تبعد 26 ميلاً من روما، ويُعتقد أنها خاصة بالشهيد أبونديوس Abundius الذي يحتفل الغرب بعيده مع رفقائه في 16 سبتمبر. جاء في هذه القبرية: "في روما، في طريق الفلامينيان Flaminian، أمر الإمبراطور دقلديانوس بقتل الشهدين القديسين أبونديوس الكاهن وأبونداتيوس الشماس مع الرجل الشهيد مارقيان وابنه يوحنا الذي أقامه أبونديوس من الموت، قتلوا بالسيف على بعد عشرة أميال من المدينة". قيل أنه قد طلب من الكاهن وشماسه أن يبخروا لهيراقليس فرفضا، لذا أُلقيا في سجن Mamertine لمدة شهر، ثم اُستدعيا ليعذبا ويُدانا. وفي طريقهما للاستشهاد التقيا بالسيناتور مارقيان الذي كان يبكي ابنه الميت يوحنا. طلب القديس أبونديوس أن يُقدم له الجثمان، وإذ صلى إلى الله وهو مقيد قام الميت باسم يسوع المسيح واهب الحياة. آمن مرقيان وابنه بالسيد المسيح ورافقا القديسين الكاهن وشماسه ليستشهد الكل في نفس اليوم معًا، وقد دفنوا في مقابر الأم ثيؤدورا بالقرب من Rignano في طريق فلامينيان.
لقرون طويلة كانت الكنيسة في الشرق والغرب تحتفل بعيد استشهاد القديس أسطاسيوس أو أستاثيوس أو أوسطاس Eustace، وقد حوت قصته بعض الأحداث حسبها المؤرخون أنها مسحة من الخيال. كان يدعي بلاسيداس أو فلاكيداس Placidas، وكان أحد وزراء مملكة الرومان، وقائدًا باسلاً في عهد الإمبراطور تراجان. لم تكن له معرفة بالله لكنه كان شديد العطف على الفقراء، مترفقًا بكل الوثنيين، ورعًا في سلوكه. وإذ كان يصطاد كعادته في الجبال رأى من بعيد مثال صليب مرتفع بين قرون أيل والسيد المسيح مصلوبًا عليه، وسمع صوتًا يناديه: "فلاكيداس، لماذا تضطهدني؟" فارتبك الوزير في الحال، وسأل عن ذاك الذي يضطهده، فجاءه الصوت: "أنا يسوع المسيح" وكان ذلك في منطقة Guadagnolo ما بين تيفولي وفالسترينا Palestrina. عاد الرجل إلى بيته يروي لزوجته وولديه ما قد حدث معه، ثم التقى بأسقف روما الذي علمه الإيمان وعمده ودعاه "أسطاسيوس" بذات الاسم الذي طلب منه الصوت أن يُسمى به، وهو يعني "الناجح" أو "الثابت" كما اعتمدت زوجته ثاوبستي (المتكلة على الله). وابناه أغابيوس (حبيب) وتاؤبستس (المتكل على الله). حلّ بالرجل نكبات متوالية إذ فقد عبيده وجورايه وأمواله، بل وحينما خرج من روما بسبب الفقر أخذ منه النوتية زوجته بسبب عجزه عن دفع الأجرة. تقول القصة إنه حمل أحد ولديه ليعبر به نهرًا وجاء ليجد الآخر قد خُطف ثم عاد ليجد الآخر غير موجود، وبقى وحيدًا يعمل كحارس بستان، يعيش في مخافة الله بروح التقوى. مرت السنوات وكبر الولدان، والتقيا معًا خلال أحد الحروب وتعرفا على بعضهما البعض، وكان التعارف قد تم في بستان كانت والدتهما تعمل فيه فصار الثلاثة معًا بفرح عظيم. إذ تولى أدريان الملك سمع عن أسطاسيوس وما حلّ به فأقامه قائدًا بروما، وعاد إلى غناه، وصار يترفق كعادته بالفقراء. سمعت زوجته بأمره فأخذت ولديها والتقى الكل معًا بروما، وعاشوا في سلام. إذ عرف أدريان الملك بعد ذلك أن أسطاسيوس وعائلته مسيحيون أمرهم بالتبخير للأوثان فرفضوا. وإذ أراد التنكيل بهم ليكونوا عبرة لكل روما، جاء بهم إلى ساحة الاستشهاد وأطلق عليهم الوحوش المفترسة الجائعة فلم تؤذهم، بل صارت هادئة وديعة، تأنس لهم. اغتاظ الإمبراطور فصار يعذبهم وأخيرًا وضعهم في قزان وأوقد النار تحتهم حتى أسلموا الروح وتمتعوا بإكليل الاستشهاد. تعيِّد لهم الكنيسة الغربية في 20 سبتمبر، والكنيسة القبطية في 27 من شهر توت. إنها قصة رائعة من جهة إعلان الله ذاته لذاك الذي يحب الفقراء ويشتاق للحياة التقوية... يحمله معه إلى الصليب ليهبه شركة أمجاد الأبدية!
دُعيت مدينة أخميم بصعيد مصر "المتشبهة بأورشليم" من كثرة ما قدمت من شهداء خاصة في عصر دقلديانوس، وهي في هذا تشبه كثير من مدن الصعيد مثل مدينة إسنا، حيث تقدم الشعب بفرح لنوال إكليل الاستشهاد. كانت أخميم تسمى "إشمين". ديسقورس وأسكلابيوس من بين الشهداء المشهورين لمدينة أخميم الأنبا ديسقورس الكاهن وأخوه الأنبا أسكلابيوس الشماس، ويبدو من ميمرهما أنهما كانا توأمين، نشأ معًا وتلازما في العبادة والنسك وحتى في احتمال الاستشهاد حتى انطلقا معًا إلى الفردوس. كانا ابنيّ أرخن محب لله من مدينة أخميم يدعى أمونيوس، كان غنيًا جدًا، وقد اهتم بتربية ولديه. حياتهما النسكية إذ بلغا الخامسة عشر من عمرهما تنيح والداهما، فتفرغا للنسك في منزلهما؛ وعندما بلغا الثانية والعشرين من عمرهما تشاورا معًا أن يمضيا إلى الجبل ليعبرا إلى البرية الداخلية ممتثلين بالقديسين يوحنا المعمدان وإيليا. وهكذا باع الاثنان ممتلكاتهما ووزعاه على الأرامل والمحتاجين والكنائس، وتركا جزءًا يسيرًا للحاجة الضرورية، ثم خرجا من المدينة خفية إلى الجبل الشرقي حيث سكنا في واد على بعد 14 ميلاً، ولعله في هذا الموضع قد بُني فيما بعد دير "السبعة جبال" الذي ذكره المقريزي. بقيا هناك ستة أشهر وسط مصاعب الحياة، وقد حفظهما الرب من الوحوش الضارية والأفاعي، بعدها أرسلهما الله إلى شيخ قديس عابد يدربهما على الحياة الكاملة في الرب، هو القس موسياس، كان قد سكن في هذا الوادي على بعد 20 ميلاً منهما منذ زمن بعيد. كان يسكن معه إخوة يتتلمذون على يديه حول عين ماء، لا زال النبع قائمًا إلى الآن في الجبل الشرقي وإن كان يصعب الوصول إليه. بقيا مع بقية الإخوة تحت قيادة هذا الشيخ لكنه لم يمض سوى ثلاثة أشهر بعدها انتقل إلى الفردوس. وقد استدعاهما قبيل تسليم روحه وباركهما وأعلن لهما أن ديسقورس يكون قسًا وأسكلابيوس شماسًا، وأنهما سيتحملا متاعب كثيرة حتى ينالا إكليل الشهادة، وإنهما يكونا سر بركة وخلاص نفوس كثيرة تقبل إلى الإيمان بالسيد المسيح، وقد انتقل الشيخ في السابع من شهر بؤونة. بقيا فترة مع الإخوة ثم عادا إلى مسكنهما الأول يمارسان الحياة النسكية بأكثر اجتهاد، متذكران كلمات أبيهما موساس وحياته، خاصة تواضعه ومحبته وتأمله في الكتاب المقدس، وقد تعرضا لحروب شيطانية كثيرة. سيامتهما إذ نزل الناسكان يومًا إلى المدينة ليبتاعا ما يحتاجان إليه، أمسكهما أهل المدينة ومضوا بهما إلى الأنبا تامسطكلا أسقف المدينة فسام ديسقوروس قسًا وأسكلابيوس شماسًا، وقد عادا إلى الجبل بعد السيامة، حيث اجتمع حولهما كثير من الإخوة يتتلمذون على أيديهما. كما أشادا كنيسة صغيرة بالجبل لكي يتقرب الكل فيها، تحولت إلى مركز روحي حيّ، يقدم إليه كثيرون لطلب المشورة والتعزية وسماع كلمة الله، وقد وهبهما الله عطية الشفاء وإخراج الشياطين. وقد عاش هذان القديسان في هذه البرية 45 عامًا مع إخوة بفرح شديد يمارسان حياة التسبحة كأنهما في الفردوس. قيل أن الأنبا أوضاكيوس أسقف أخميم زار القديسان حيث اجتمع بهما مع بقية الآباء والرهبان، وأيضًا جمهور كبير من الشعب كان قد قدم لنوال البركة، فتحدث الأسقف إليهم وأنبأهم بما سيحل بالقديسين والرهبان مع رجال الدين والشعب بأخميم عندما ينحرف دقلديانوس عن الإيمان، وكان يشجع الكل على احتمال الاضطهاد بفرح. موجة الاضطهاد إذ كفر دقلديانوس أثار الاضطهاد على الكنيسة، وجاء أحد الولاة يدعى أرمانيوس إلى أخميم حيث استقبله أكابر المدينة وعظمائها وكهنتها وشعبها، أما الأسقف أوضاكيوس فكان قد تنيح من شهرين. أعلن أرمانيوس منشور دقلديانوس، وطلب منهم أن يبخروا للأوثان فهاج المسيحيون رافضين ذلك. دهش أرمانيوس إذ لم يجد بين مستقبليه أبسكندة الكاهن العظيم للوثن، فسأل عنه الكهنة الذين ذهبوا إليه يخبرونه بأن الوالي يسأل عنه وإنه يحمل هدايا كثيرة، فأجابهم أبسكندة أنه قد صار مسيحيًا، وبدأ يكرز لهم حتى آمن الكثير منهم. أعد أرمانيوس حفرة ضخمة ليحولها إلى أتون يحرق فيها النصارى الذين يرفضون التبخير للأوثان. نزول القديسين إلى أخميم ظهر رئيس الملائكة ميخائيل للقديسين ديسقورس وأسكلابيوس لينزلا إلى أخميم وينالا مع الشعب إكليل الشهادة، ففرحا بهذه الدعوة، وأقاما رئيسًا للإخوة يدعى الأنبا بطرس عوضًا عنهما. في أخميم دخل الناسكان الكنيسة ليجدا كل الشعب ومعهم أبسكندة وبعضًا من كهنة الأوثان البالغ عددهم حوالي السبعين وأيضًا بعضًا الشعب الوثني هؤلاء الذين قبلوا الإيمان ونالوا سر العماد بفرح. فتحدث القديس ديسقورس بقلب ملتهب عن الاستعداد لنوال إكليل الاستشهاد. بعد أيام قليلة جدًا (ربما بعد يوم أو يومين) اجتمع الكل في الكنيسة بالليل ليحتفلوا بعيد الميلاد المجيد، وقد رأس الصلاة الأنبا بانوديون الأسقف، وكان قد حضر مع الوالي أرمانيوس موثقًا، فتركه الجند لعله يتراجع عن إيمانه... أما هو فانطلق إلى الكنيسة وبقي ساهرًا مع الكل يحتفلون بالعيد. سمع الوالي بذلك فأخذ جنده وانطلق إلى الكنيسة في الصباح، واستدعى أرخنين من الكنيسة، وسألهما أن يتركا الإيمان ويستميلا بقية الشعب عن هذا العصيان لدقلديانوس، فأبيا رفض الإيمان وسلما عنقيهما للسيف، عندئذ صرخ الشعب في الكنيسة يعلن إيمانه. انطلق الجند إلى الكنيسة وقتلوا أولاً أبسكندة وكهنته، ثم سحبوا الأسقف والناسكين والرهبان ليوثقوهم، وضربوا بالسيف كل الشعب المجتمع للعيد. انتشر الخبر سريعًا في الكنائس الأخرى بالمدينة، فصارت الجموع تأتي إلى هذه الكنيسة لتشهد منظر طغمة من الملائكة نازلة من السماء، كل ملاك يحمل إكليلاً ليقدمه لشهيد، فكان الكل يتهافت على نوال إكليله. ويقدر عدد الشهداء في يوم ميلاد الرب (29 كيهك) بحوالي سبعة آلاف ومائتين شخصًا، وكأنهم في موكب نصرة ينطلق مع شهداء بيت لحم لينعم بالفردوس. في السجن أخذ الوالي يوبخ الأسقف بانوديون بأنه مثير للشغب وأنه هو السبب في قتل هذه الآلاف ثم أمر بسجنه. واستدعى الأنبا ديسقورس وصار يعذبه، وبالليل سجنه مع أخيه والرهبان الذين معهما. في الصباح (30 طوبة) استدعى ديسقورس ومن معه وقد لاحظ أنهم محلولي الرباطات، فصار يوبخ رئيس الجند أكوديوس المنوط بحراسة السجن متهمًا إياه أنه ارتشى مع جنده ليحلوا هؤلاء الرجال. وكانت المفاجأة أن أكوديوس ومساعده فليمون وأيضًا الجند قد أعلنوا أنهم قبلوا الإيمان المسيحي، فأحرق الوالي الجند بالنار. زكريا وأبوه قيل أن رجلاً كان واقفًا يرى هذا المشهد ومعه ابنه الصغير زكريا، فصار الابن يصرخ قائلاً أنه يرى ملائكة تنزل من السماء، وتقدم أكاليل مجد للجند وسط النار. فصار الوثنيون المشاهدون للمنظر يتعجبون لذلك. وإذ سمع الملك بالأمر أصدر أمره بقطع لسان الابن. انطلق الأب الوثني حزينًا على ابنه وقد صار الدم يندفع من فمه، وجموع من الوثنيين يواسونه، وإذا برئيس الملائكة ميخائيل يشفي الولد فيؤمن كثيرون بالسيد المسيح. فأحرق الوالي زكريا وأباه وقتل بالسيف الذين آمنوا، وكان ذلك في الثلاثين من كيهك. مع أولجيوس وجنده إذ جاء المساء أمر الوالي رئيس جند يدعي أولجيوس أن يضبط ديسقورس ورجاله في السجن، وكان أولجيوس وهو وثني يخاف الله ويتطلع إلى هؤلاء الرجال كأنبياء، لكنه كان ملتزمًا بتنفيذ أمر الوالي. كبّل الرجال بالقيود وبقى مع جنده حارسًا للحبس وهو مرّ النفس... فظهر رئيس الملائكة ميخائيل للقديس ديسقورس كالمرة السابقة وجمعه بأولجيوس ورجاله، وصار يكرز له، حتى إذا جاء الصباح استشهد أولجيوس ورجاله كمؤمنين، دخلوا الأتون الذي أعده الوالي بفرح شديد. وتعرض القديس ديسقورس لأتعاب كثيرة في ذات اليوم، وكان ببشاشته وشجاعته يجتذب الكثيرين من الوثنيين، وقد استشهد معه جموع كثيرة. خلاص أرمانيوس عاد أرمانيوس إلى القصر وهو حزين القلب من أجل الدماء الكثيرة التي سُفكت في أيام قليلة وأخيرًا نام، وإذ بديسقورس يظهر له بمجد عظيم ليوقظه. ارتعد الوالي الذي لم يعرف ديسقورس في البداية من أجل بهاء المجد الذي له، وإذ أخبره عن نفسه اختفى، فآمن الوالي بالسيد المسيح واعترف بذلك أمام دقلديانوس، واستشهد مع بعض أصدقائه بالسيف.
نشأ الشهيد أسكلاس Asclas في منطقة أنتينوه، وفي زيارة أريانا والي أنصنا لهرموبوليس (الأشمونيين) استدعى أسكلاس، وصار يستجوبه، وأخيرًا قال: "إذن فلتأتِ الآن، ولتذبح للآلهة من أجل سلامتك، فإنك ترى ما لديّ من وسائل متنوعة (للعذابات)". في شجاعة أجابه الشهيد: "لتجرب الآن، فترى إن كنت تغلب أنت بوسائلك، أم أنا بمسيحي!" أمر الوالي بربطه في حصان ليتهرأ جسمه ويتناثر، وإذ رآه لا يبالي قال: "حقًا إني أراه عنيدًا للغاية". أجاب المدعي: "إن اقتراب الموت منه سلبه صوابه". أجابه الشهيد: "لا، لن يُسلب مني صوابي ولا إلهي". إذ جرى ذلك بالقرب من أنتينوة، أراد الوالي الذهاب إلى هرموبوليس، فأمر أسكلاس أن يركب مركبًا، وركب هو مركباً آخر ليعبرا النيل. صرخ أسكلاس طالبًا من الرب أن يتمجد بشفتي أريانا نفسه لا إراديًا، وبالفعل توقفت مركب أريانا في وسط النيل ولم يكن ممكنًا أن تتحرك، وكأنها قد استقرت على شاطئ رملي، وإذ بدأ الخوف يملأ أريانا اضطر أن يكتب بنفسه ورقة يعلن فيها أنه ليس رب إلا إله أسكلاس وحده القادر أن يخلص، وأرسلها إليه، عندئذ تحرك المركب. لكن الوالي وقد ترك السفينة حسب ما فعله أسكلاس من فعل السحر، فصار يعذبه بالنار عند جنبيه وبطنه حتى صار جسمه كتلة من الألم. ربط عنقه بحجر وألقاه في النيل. وهكذا تمتع الشهيد أسكلاس بالإكليل، ويُعَيَّد له في الكنيسة الغربية يوم 23 يناير.