غفران: غفران
الغفران هو مسامحة ذنب مهما كان مضمونه أو أصله. هو عمل مشترك بين الله والانسان. فالانسان يسامِـح والله يسامِـح. ولكن غفران الخطايا هو عمل خاص بالله. حين يغفر الله فهو يخلق الانسان من جديد : "قلبًا نقيًا أخلق فيّ يا الله". ونبدأ بالكلام عن : (1) الغفران المتبادل. فالغفران الذي يمنحه الانسان لانسان آخر أغاظه، وذلك عملاً بشريعة الله، نجده في عدد من الديانات. وله مكانته في أرض اسرائيل : فالأب يغفر لابنه، والأخ لأخيه : غفر عيسو ليعقوب (تك 33)، ويوسف لإخوته الذين باعوه (تك 50 :17). وفي العهد الجديد، جاء النداء إلى الغفران ملحًّا : "إن خطئ أخوك فاغفر له" (لو 17 :3). وسأل التلاميذ يسوع عن عدد المرات التي فيها يغفرون، فأجاب سبعين مرة سبع مرات (مت 18 :21؛ لو 17 :4). وينتهي مثلُ الخادم الذي لا يرحم، هذا المثَل الذي يشدّد على ضرورة الغفران، بتهديد للذين لا يغفرون لاخوتهم من كل قلبهم (مت 18 :35). من الواضح أن الغفران المتبادل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بغفران يمنحنا إياه الآب السماوي : "اغفر لنا ذنوبنا، كمت غفرنا نحن للمذنبين إلينا" (لو 6 :27). وفي الصلاة الربية نقول : "إغفر لنا كما نحن نغفر" (مت 6 :12). ويتابع يسوع : "فإن كنتم تغفرون للناس زلّاتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم. وإن كنتم لا تغفرون للناس زلاتهم، لا يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم" (مت 6 :14؛ مر 11 :25). ويتواصل هذا التعليم في الرسائل البولسية (أف 4 :32؛ كو 3 :13). فينبوع كل مغفرة هو في الله الذي يرى في خطيئة خلائقه إغاظة لقدرته وعدالته وبرّه وحبّه. وفي العهد الجديد، يسوع المسيح، ابن الله، هو الذي يتلفّظ بكلمات الغفران فيكون عمله امتدادًا وتطبيقًا في العالم لغفران الله. فهو حمل الله الذي يرفع خطايا العالم (يو 1 :29، 35). إلاّ أن هناك خطيئة لا تغفر. خطيئة الكفّار، ومنتهكي الاقداس والخطأة المتصلّبين. قال إش 6 :10 (مر 4 :12) : "لئلا يتوبوا فتغفر لهم خطاياهم". وتحدّثت 1يو 5 :16-17 عن خطايا تقود إلى الموت، فلا ينفع فيها غفران على الأرض. وتقول عب 6 :4-6 إن المعمّد الذي يسقط في الوثنية، فيجحد ايمانه، لا يستطيع أن ينال الخلاص مرة أخرى. قد نكون هنا أمام سر التوبة. وأخيرًا هناك الخطيئة ضدّ الروح القدس (مت 12 :31-32؛ مر 3 :28-29؛ القساوة؛ في مز 130 :4 : الخطيئة). ونصل إلى (2) غفران الله. فبحسب تعليم البيبليا، الغفران الالهي هو عمل سامٍ من الرحمة به يعطي الله الانسان امكانيّة الدخول إلى نعمته وحنانه. وهكذا يتجاوز الانسان الخطيئة التي تحطّم العلاقة بينه وبين الله. هذه الخطيئة تختفي من أمام نظر الله. فكأنها ما كانت ولا وُجدت، والله يبدأ معنا من جديد. حين يغفر الله للانسان، فهو يعيد علاقته بالانسان كما في البداية، ويُدخل كلَّ واحد منا في عالم نستطيع فيه أن نمارس مشيئة الربّ. المغفرة هي تجديد الحياة. وهي تجعل من الانسان كائنًا جديدًا. إن الخطيئة التي هي ثورة على الله وتصلّب في الشرّ، تدمّر الحياة الروحيّة. أما الغفران فيعيد بناءها. ليس الغفران فقط إزالة العقاب. بل هو يعيد العلاقة مع الله الخالق. وُجدت الخطيئة ولا شكّ في ذلك، والانسان يبقى مسؤولاً عن فعل قام به. ولكن الرب يضع حدًا لوضع اللعنة والعبوديّة الذي نعرفه بخطيئتنا. فإن كان الله يخلّص حين يغفر، فلأنه يحبّ الخاطئ الذي يبقى رغم كل شيء على صورته ومثاله، الذي يبقى ابنه رغم كل شيء، وإن اراد أن يكون أجيرًا في بيت أبيه (لو 15). إن حبّ الله يرتبط ارتباطًا وثيقًا بغفران الخطايا. فالله قدير وحنون وهو يغفر حبًا باسمه (إش 43 :25). فرحمة الله لا تنفي كرهه للشرّ. وغفرانه للخاطئ لا يستبعد غضبه (أي عقابه) على المتمرّدين والكفرة الذين يزدرون بوصاياه. لهذا، فهو يتلفّظ بكلمات قاسية جدًا تجاه الخطأة ويحكم عليهم : إذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبّدة. حين نقرأ العهد القديم بشكل عام، نرى أن غفران الخطايا يفترض الاقرار (إر 14 :20؛ مز 32 :2-5) والثقة المتواضعة والتألّم لأننا أغظنا الله (إش 57 :15؛ عز 6 :2-4؛ 51 :19 : القلب المنسحق). يفترض الرجوع عن الخطيئة والتوبة (إر 3 :14؛ خر 18 :30-32؛ 33 :11). وحين يريد بنو اسرائيل أن يعبّروا عن توبتهم، كانوا يقدّمون ذبيحة عن الخطيئة. وهكذا ارتبط الغفران بالتوبة. وعلى عتبة العهد الجديد، كرز يوحنا المعمدان بعماد التوبة (مر 1 :4؛ لو 3 :3؛ رج مت 3 :2، 8، 11؛ لو 3 :8). ويسوع نفسه كرز بالتوبة (لو 4 :18؛ أع 2 :38؛ 5 :31) ومثله فعل الرسل. غير أن يسوع أسمعنا "نغمة" جديدة : فإذا كانت التوبة مفروضة دائمًا، إلاّ أن الانسان، مهما تاب، لن يدرك بقواه الخاصة الهدف الذي هو غفران الخطايا، مهما كانت عواطف قلبه وطاعة يده. ليس الرجوع الذي تتبعه الاعمال الصالحة هو ما يبرّر الانسان، بل نعمة من الله مجانيّة وتجاوب مع هذه النعمة. فالله يبادر دومًا ويغفر لنا. ونحن نعي خطيئتنا فيتجسّد غفرانه فينا. فالانسان يبقى دومًا تجاه الله صاحب دين لا يستطيع أبدًا أن يفيه. هو لا يستطيع أن يخلّص نفسه بنفسه (مر 10 :27؛ مت 19 :26؛ لو 18 :27). هذا ما يعلنه الانجيل في مثل الابن الضال : وحده غفران الله المجانيّ يُدخل الابنَ إلى بيت الآب. وهكذا نصل إلى غفران الخطايا بواسطة المسيح. فيسوع المسيح مرسل الله وابنه، يُعلن غفران الخطايا. ويؤكد بسلطانه على هذا الغفران ويتمّه. يقول : "مغفورة خطاياك" (مت 9 :2؛ مر 2 :5؛ لو 5 :20) لأن له السلطان على مغفرة الخطايا (مت 9 :6؛ مر 2 :7، لو 5 :21-24) وإن تشكك المتشككون. وفي العشاء الأخير أكّد أن موته هو لغفران الخطايا (مت 26 :28) فدلّ هكذا على العهد الجديد. والعماد المسيحيّ هو أيضًا عماد في يسوع المسيح لغفران الخطايا (أع 2 :38). وقد أعلن الرسل هذا الغفران، هذا الخلاص في موته (لو 24 :47). هذا ما قاله بطرس (أع 5 :31؛ 10 :43) وبولس (أع 13 :38؛ 26 :18) الذي ربط الفداء بغفران الخطايا (أف 1 :7؛ كو 1 :14). كل خطيئة تلقى المغفرة (1يو 1 :9؛ 2 :12؛ يع 5 :15). وبالنسبة إلى المسيحي، المسيح هو الذي نال له غفران الخطايا الذي هو أكثر من محو خطايا. إنه انفتاح على المستقبل. وما فعله يسوع تفعله الكنيسة التي تعلن غفران الخطايا. فنحن نحصل على المغفرة من الله. لأن الله يعطي الانسان المغفرة بنعمة مجانيّة منه، ولأن يسوع المسيح يكفله بتجسّده وبموته، فهو يقول : "اذهب ولا تعد إلى الخطيئة" (يو 8 :11). ولكن إن كانت النعمة أكيدة، إلاّ أن هجمات الشيطان لا تزال حاضرة. لهذا يُعلن لنا الغفران يومًا بعد يوم : "أكتب إليكم بهذه الامور لئلا تخطأوا. وإن خطئ أحد منا، فلنا يسوع المسيح البار شفيع عند الآب" (1يو 2 :1). لهذا سلّم يسوع إلى كنيسته خدمة غفران الخطايا : "من غفرتم له خطاياه تغفر له، ومن منعتم عنه الغفران يُمنع عنه" (يو 20 :23). وكان قد قال لبطرس (مت 16 :19) وللرسل (18 :18) : "ما تربطونه في الأرض يكون مربوطًا في السماء، وما تحلونه في الأرض يكون محلولًا في السماء".
1}