عرابية: عرابية
تشكل عرابية شبه جزيرة واسعة تتألّف من مليوني كلم مربع، وهي واقعة في غربي آسيا الجنوبيّة. تحيط بها من الشمال أرض الهلال الخصيب، ومن الشرق الخليج العربي (أو : الفارسيّ)، ومن الجنوب الاوقيانوس، ومن الغرب البحر الأحمر. أما قلب هذه الجزيرة فهو صحراء واسعة لا مياه فيها، هي الربع الخالي. ثم هضاب صخريّة وصحراويّة حارّة وجافة، النجد الذي تحيط به من الشمال رمالُ النفود. أما الوديان والتلال التي تمتدّ على الشواطئ، مثل الحجاز في الشمال، واليمن في الجنوب، فهي خصبة، وقد عُرفت في القديم بمنتجاتها التي كانت غالية الثمن. 1) اليمن والحسا. إن العلاقات بين بلدان الهلال الخصيب وعرابية الجنوبية والشرقيّة كانت بشكل خاص على المستوى التجاريّ. فقد كانت طرق القوافل تقود من اليمن إلى الشمال حتى دمشق وحدود مصر، أو إلى الشمال الشرقي عبر نجد حتى بابلونية الجنوبيّة حيث تلتقي مع الطريق الآتية من هاجر، عاصمة الحسا القديمة، أكبر (180 كلم مربع) وأغنى واحات العربية السعودية التي صار مركزها الحالي الحفوف. هذه المنطقة من عرابية الشماليّة الشرقيّة التي لم تُستكشف بعد كثيرًا من الناحية الاركيولوجيّة، قد عرفت في العصور القديمة مستوى رفيعًا من الحضارة فاتصلت باكرا ببلاد الرافدين الجنوبيّة. وأقدم مدوّنة معروفة حاليًا لملك هاجر قد وُجدت في جزيرة قريبة من البحرين. دُوّنت في السومريّة وعادت على ما يبدو إلى منتصف الألف الثاني ق.م. إذا وضعنا جانباً هذه الوثيقة القيّمة، فان عرابية لا تدخل في التاريخ إلا في القرن 9-8 ق.م. وهي تقدّم للمؤرخ وجهين مختلفين جدًا. من جهة، تبدو الفيافي المجاورة للهلال الخصيب مليئة بالقبائل اليدوية التي تسّمي نفسها عربًا أي بدوًا. ومن جهة ثانية، من الجنوب الشرقي لجزيرة العربيّة تتكوّن حواضر مختلفة سوف تصل إلى مستوى رفيع من الحضارة الدينيّة منذ منتصف الألف الأول ق.م. اختلفت طرق الحياة بين الفئتين. واختلفت الظروف الاجتماعية والاقتصادية. وكان الاختلاف الكبير على المستوى اللغويّ. ساعة كانت قبائل الشمال البدويّة تتكلّم لهجات مختلفة عن لغة الشمال العربي، وقريبة من الكنعانيّة او أراميّة سورية وفلسطين، كانت لغات الجنوب العربيّ المحكيّة في ما يسمّى اليمن اليوم، قريبة من اللغة الحبشيّة القديمة في أمور عديدة. أما السكّان المقيمون في هذه المناطق، فما كانوا يعتبرون نفوسهم "عربًا" في الزمن البيبليّ. ولا حتى في الأجيال الأولى للمسيحيّة. بل كانوا يسمّون البدوَ الذين يهدّدونهم أو يعملون في خدمتهم "عربًا". أما الممالك الأهم في اليمن القديم، فهي مملكة سبأ، حضرموت، معين، قتبان، وبعد ذلك حمير. وبما ان الطرق التجاريّة في عرابية الجنوبيّة كانت تصل حتى سورية وفلسطين، فنحن لا نجد فقط على حدود الهلال الخصيب العرب البدو في الفيافي بل قوافل آتية من عرابية السعيدة، كما كانت تسمّي رومة اليمن "ارابيا فليكس". في أيام تغلت فلاسر الثالث (744-727) ذُكرت سبأ للمرة الأولى في النصوص الأشوريّة. ولا شك في أن هذا الاسم يدل على مملكة سبأ في الجنوب العربيّ. وتلقّى سرجون الثاني (721-705 ق.م.) هدايا من امير سبأي اسمه يتاع امارا. كما ارسل الملك كريبئيل السبأي هدايا لسنحاريب (704-680). نحن نجهل إن كان السبأيون قد امتلكوا اسواقًا تجاريّة في شمالي الجزيرة، كما امتلك المينيوّن فيما بعد في ددان أو العيلة اليوم. ويمكن ان يكون مركز المينيين في ددان قد سبقه سوق سبأي، لأن سبأ وددان ذُكرا معا في تك 10 :7ب. إن هذا النصّ يعود بنا إلى القرن السابع، إلى الوقت الذي فيه ذُكر ددان في ار 25 :23. واحتلّ نبونيد، ملك بابل (555-539)، ددان كما احتلّ تيماء وفدك ويديع وخيبر ويثرب (المدينة اليوم)، وهي مدن تقع كلها على طريق اللبان (أو البخور) التي تقود من العربيّة الجنوبيّة نحو الشمال. هذه الحرب بلبلت بلا شكّ التجارة السبأيّة. وفي الحقبة الفارسيّة، بدت تيماء المركز التجاريّ الدوليّ الذي منه تنطلق محاصيل العربية الجنوبيّة نحو بابلونية وسورية ومصر. ومن نتائج سقوط مملكة الاخمينيين، تبدّلات جديدة في المنطقة. ففي بداية الحقبة الهلنستية جعل المينيّون لهم مستوطنة في ددان التي ظلت مزدهرة في القرن 2 ق.م. ولكن التجارة انتقلت إلى أيدي الأنباط، وهم قبيلة من الشمال العربي انتقلت إلى حياة الحضر في أرض أدوم وكوّنت مملكة مزدهرة. 2) عرابية الشمالية. كانت عرابية الشمالية موطن العرب في المعنى الحصري للكلمة (إر 25 :24؛ خر 27 :21؛ 2أخ 9 :14؛ إش 13 :20؛ إر 3 :2). وتأثّرت اللغة العبرية بالاشورية فكانت لفظة "ع ر ف" التي منها تكوّن "ارفكشاد"، أقدم شهادة عن اللفظة في الاكاديّة تعود إلى بداية حكم شلمنصر الثالث (858-824). بما أن بني اسرائيل وبني يهوذا اتصلوا بقبائل الشمال العربيّ على مدّ تاريخها، يبدو من المعقول أن لفظة "عربي" استعملت في اللغة العبريّة مع استعمال أسماء القبائل المعروفة. فالمدوّنات الملكيّة الاشوريّة تجعل صفة "عربي" لأناس من قبيلة قيدار الكبيرة ومن قبيلة سومئيل التي هي اختلافة بسيطة لاسم اسماعيل، وابناء إديبائيل التي تشبه ادبئيل البيبليّة (تك 25 :13؛ 1أخ 1 :29)، وأبناء عيفة، تمود، إيباديدي، مرسيماني (هي مبسام في التوراة بسبب خطأ في الكتابة وضعت الراء موضع الباء. تك 25 :13؛ 1أخ 1 :29). غير أن هناك قبائل أخرى ربطتها النصوص الأشوريّة بالعرب، دون أن تسمّيهم بهذا الاسم بشكل واضح. هم أهل تيماء، مسّه، هم المعونيون (قبائل تحالفت مع العمونيين والموآبيين ضد يوشافاط في 2أخ 20 :1 حسب السبعينية، ثم تحالفت مع الفلسطيين والعرب ضد عزيا، 2أخ 26 :7) و نبايوت وخطيايا وبدانايا. نحن نجد عددًا من هذه القبائل بين ابناء اسماعيل الاثني عشر (تك 25 :13-15؛ 1أخ 29 :31). ينتج عن هذا أن النصوص تعطينا لائحة بالقبائل العربيّة والواحات التي عُرف اكثرها منذ القرن الثامن ق.م. أما العرب الذين تتحدّث عنهم فهم "بدو يرعون الجمال"، فيُجبرَون على قطع مسافات كبيرة جدًا بحثًا عن الماء والكلأ. فمن خيام الشتاء في النفود، إلى اماكن الانتجاع في الصيف في سورية الشمالية، كانت القبائل التي تربي الجمال تنتقل في طريق تمتد بين 600 و 800 كلم. ونعرف ان الشيخ العربي جندبو شارك سنة 853 في معركة قرقر مع ألف جمل. وكانت قبائل أخرى تتحرّك نحو الفرات، فتّتصل مع حضارات بلاد الرافدين. وهذه العلاقات الموسميّة مع المدن التي تجاور الفيافي، ما كانت تنحصر في عمل المقايضة الذي لا بدّ منه. بل كانت هناك مشاركة في شعائر العبادة واقتباس من هذا المعبد أو ذاك. ومع ذلك، ظل البدويّ متعلّقًا بأعرافه وعاداته. فالممارسة القديمة للمتريركية (أي الام هي رئيسة القبيلة أو البيت، لا الأب) تنعكس في الدور الذي أعطي لهاجر التي باسمها تسمّت مدينة هاجر. ثم ذُكرت ملكات عربيات عديدات (رج 1مل 10؛ ونصوص أشوريّة) : "زبيبة" ملكة قيدار وعرابية حوالي سنة 738. "شمشي" ملكة عرابية سنة 733. "يطيعه" ملكة عرابية سنة 703-702. "تالخونو" ملكة عرابية سنة 681. شكلت هذه الملكات أعلى سلطة مدنيّة وروحيّة في القبائل. فقد كُنَّ كاهنات، وهي وظيفة تذكرها النصوص الاشوريّة بلقب أرامي (كومرتو) أو عربي افكالاتو الذي يعود أصله إلى بلاد الرافدين. وان هذه الكاهنات الملكات قد أقمن على ما يبدو في واحة دومة، دومة الجندل، التي ارتبطت بالاسلام مع خالد بن الوليد، وهي اليوم الجوف التي تبعد 450 كلم إلى الشرق من خليج العقبة. هي الواحة المذكورة في تك 25 :14؛ 1أخ 1 :30؛ إش 21 :11، قد احتلّها سنحاريب وسبى كاهناتها وآلهة العرب. غير ان أسرحدون ردّ الآلهة إلى حزائيل ملك عرابية الذي خلف الملكة تالخونو. عند ذاك صارت "تبوعة" الملكة وكاهنة الالهة مع الاله الكوكب عطّار السماوات. أما سائر آلهة عرابية الشماليّة المذكورة في ذلك الزمن فهي الالاهة المرضع (داية) والالاهة الشمس "نوهاية"، واله الحرب "روضايو"، وإله الخصب "ابير إلو" اما عطار قوروما فكان تجلّيًا ثانيا للاله الكوكب (عطارد). في القرن السادس ق.م. تبدّل المركز السياسيّ والدينيّ في عرابية الشماليّة، فصار في تيماء حيث أقام نبونيد، ملك بابلونية، عشر سنوات بعد ان احتلّ تلك الواحة. ومع ذلك، ظلت قبيلة قيدار أقوى القبائل. وسُمّي شيوخها "ملوكًا"، وقد ظلوا ناشطين جداً في الحقبة الاخمينية الفارسية. وكانت لهم حامية في فيتوم التي هي اليوم تل المشخوطة. ويبدو أن الانباط كانوا عشيرة قيداريّة أقامت في منطقة تيماء كما يقول بلينوس الأكبر : "ان الاقدمين ربطوا الانباط بأهل تيماء" (التاريخ الطبيعي 157). وقد احتفظ تر يون حول خر 27 :21، على ما يبدو، بتذكر تاريخيّ حين ترجم "كل أمراء قيدار" بـ "كل الوجهاء الانباط". فمنطقة النبطيّة كانت قد امتدّت حتى دمشق. وفي الشمال تركت عددٌ من العشائر العربيّة حياة البدو وأقامت في تدمر حيث شاركت في تفتّح الحضارة الهلنستيّة الانتقائية التي عرفتها هذه الواحة منذ القرن الاول ق.م. حتى القرن الثالث ب. م. وفي شمال بلاد الرافدين، أي في الشمال الغربي للموصل، اسّس العرب مملكة هترا (الحضر اليوم)، وهي حاضرة ازدهرت في القرن 2-3 ب.م. كان ملوكها خاضعين للفراتيين فأخذوا لقب "ملك عرابية".
1}