سومريّون: سومريّون
أوّلاً : السومريّون شعب أقام في بلاد الرافدين في بداية الزمن التاريخيّ، ولعب فيها دورًا كبيرًا. لقد عمل هذا الشعب من أجل النموّ الحضاري في تلك البلاد وأثّر في مدنيّة الشرق الأوسط كلّه. وتأكّد في يومنا أن السومريّين لم يكونوا الشعب الوحيد في بلاد الرافدين بحيث يصعب علينا القول إلى أيّ عرق انتموا. هناك علماء وجدوا تقاربًا بين السومريّة واللغة التركيّة القديمة. هاجر السومريّون إلى بلاد الرافدين، شأنهم شأن سائر الشعوب الذين سبقوهم. ولكنّنا نجهل من أين جاؤوا. ثانيًا : تاريخ (أ) تكاد تنحصر مراجع تاريخ سومر القديم بالاركيولوجيا. ولهذا يستحيل علينا أن نقدّم كرونولوجيا قبل سنة 2700 ق.م. فقبل أن يصبح الجنوب مأهولاً، نكتشف في الشمال حضارات تسمّت باسم الأمكنة التي اكتشفت فيها : حسونة، تل خلف، سمارا. جهلت حسونة دورة الفخاري، ولكن شعبها تحضّر وعمل في الزراعة التي كانت معروفة في الحقبة النيوليتيّة (حفريّات يرمو). وعرفت خلف وسمارا دورة الفخاري وتقنيّة طبخ الفخّار. نحن في الحقبة النيوليتيّة. في هذا الوقت صار جنوب بلاد الرافدين آهلاً. وتميّزت أقدم حضاراته بفخاريّات حجي محمّد (ألوان متعدّدة، رسوم هندسيّة تدلّ على تقنيّة متطوّرة). وامتلأت البلاد بشعب كثير. عاش السكان في القرى، ومارسوا في ما مارسوا الزراعة. ولكن لم تكن القرى محاطة بأسوار. وجاء بعد هذه الحضارة حقبة العُبيد مع فخاريات ذات لون واحد. انتشرت هذه الحضارة حتى خارج بلاد الرافدين. وتحوّلت حقبة العُبيد إلى حقبة أوروك التي وصلت إلى أوجها في حقبة أوروك الرابعة (أرفع حضارة عرفتها بلاد الرافدين). فالهياكل الضخمة والأبنية التي اكتُشفت في أوروك تدلّ على ذلك. هذه الحضارة هي بلا شك عمل السومريّين. فأوّل سلالة في أوروك بعد الطوفان عملت على ازدهار هذه الحضارة قبل وبعد حقبة أوروك الرابعة إلى زمن جمدت نصر (أوروك الثالثة) وإلى زمن مسيليم. تضمّ هذه السلالة الملكيّة في الواقع، أشخاصًا ميتولوجيّين : اين مركار، لوغلبندا، دوموزي، جلجامش. بدأت سنوات حكم هؤلاء الملوك طويلة، ولكن سنوات الآخرين عرفت فترة معقولة. عاصرت هؤلاء الملوك سلالة كيش الأولى. وان ذكْرَ حرب جلجامش ضدّ اجّا آخر ملك في سلالة كيش الأولى، قد حُفظ في الأدب. كما حُفظ ذكر علاقات هذا الملك مع أراتا (في الشرق، ما وراء شوشن : أفغانستان)، مع آسية الصغرى (سفَر جلجامش وانكيدو إلى غابة الأرز) مع مجان وملوخا (مصر). واكتُشفت الكتابةُ المسماريّة في حقبة أوروك الرابعة على يد السومريّين. ووصل فنّ البناء في أوروك إلى مستوى لم تصل إليه فيما بعد. لقد صنعوا ترابة لا تزال قاسية كالحجر بعد 5000 سنة. والحقبة الثانية بلاد الرافدين هي حقبة جمدت نصر (مكان اكتشف فيه فخار بلون الخمر ومزيّن برسوم سوداء) أو حقبة أوروك الثالثة. هذه الحقبة تطرح مشاكل خطيرة. يتميّز فنّ البناء فيها باستعمال قرميد من شكل خاص. مواضيع الأختام مجرّدة وهندسيّة من جهة، ومن جهة ثانية واقعيّة. في هذا الوقت انتشرت طريقة الفسيفساء، وهي من أهمّ الاكتشافات في تاريخ البناء، لأنّها تحفظ القرميدات من التفتّت وتُقدّم زينة جميلة. لا انفصال عميقًا بين أوروك الرابعة وجمدت نصر، بل هناك تواصل بين هاتين الحقبتين ولا سيّما في الكتابة والبناء. ولا يُستَبعد أن تكون حصلت كارثة بين هاتين الحقبتين، لأنّ أوروك الرابعة توصّلت إلى خلق صورة عظيمة عن الإنسان. أمّا حقبة جمدت نصر فبدأت بتقنيّة بدائيّة. (ب) إنّ نهاية حقبة جمدت نصر تشكّل بداية الأزمنة التاريخيّة : حقبة مسيليم (حوالي 2700 ق.م.). منذ هذا الوقت، نستطيع أن نضع كرونولوجيا ثابتة وإن تقريبيّة. امتدّت حقبة جمدت نصر 200 أو 300 سنة، بحيث إنّ أوروك الرابعة تعود إلى سنة 3000. أمّا بالنسبة للعُبيد القديم، فيقودنا الكربون 14 إلى سنة 4500، ومن أجل حقبة مسيليم لا تستند معرفتنا فقط إلى المعطيات الأركيولوجيّة بل إلى وثائق مكتوبة، إلى الكتابات الملكيّة وأهمّها وثيقة إنسي (أي حاكم) كيش التي تصوّر إعادة تنظيم أرض الهياكل في الجنوب وتهدئتها. وحُفظت الحواشي عن أوروك وأومه ولاغاش. هذه أوّل مرّة نسمع فيها أنّ الشمال تدخل في الجنوب، وهذا ما يشير إلى تسلّط كيش على كلّ بلاد الرافدين، أو إلى بداية انحطاط لن يتخلّص منه فيما بعد. إنّ مسيليم تحمل اسمًا سومريًّا، ولكن العنصر السامي كان كثيرًا في الشمال. إلى هذه الحقبة تعود في الشمال الكتابات الأكاديّة السابقة لسرجون (ماري، منطقة ديالا). وتبدّلت هندسة البناء كليًّا، فبدأوا يبنون بقرميدات صعبة الاستعمال. بعد هذا ارتفعت مدينة في الريف هي لاغاش. وان انتيمينا إنسي (حاكم) لاغاش عاد إلى تنظيم مسيليم ليسند مطالباته ضدّ أومة. ولكن قبل انطلاقة قوّة أكاد السامية في أيام سرجون الأول، لم يعد الجنوب إلاّ دولة منحطّة ومقسّمة إلى دويلات ضعيفة. حاول أوروك أجينا من لاغاش أن يعيد تنظيم البلاد. على المستوى السياسي، قام لوغالزا غاسي من أومة، فاحتلّ جزءًا كبيرًا من الأرض، ولكنّه لم يقدر أن يقف بوجه سرجون الأكادي الذي أخضع الجنوب كلّه بدون صعوبة حوالي سنة 2300. وهاتان الحقبتان ممثّلتان بالحفريّات : في أوروك هما المستويان الثاني والأول. إن سلالة أكاد (سرجون، ريموش، فيشتو، نرام سين، سركالي شري وبعض الملوك حتى سنة 2150) التي حملت بعض التجديد، تركت مكانها لسلطة غوتي البربريّة. وكانت سلالة أور الثالثة مهمّة، لأنّها دشّنت نهضة سومريّة (أور نامو، شولجي، أمارسين، شوشين، ابي سين). مالت سياستها بالمحافظة على الحالة الراهنة. فمنعت تسرّبات العنصر الحوري، وكيّفت تجدّدات الأكاديّين على عقليّة الساميّين الدينيّة، وأبعدت الاهتمامات الدينيّة (التي كانت تسيطر على كلّ شيء) عن الحياة الاقتصاديّة. فكانت النتيجة خلقَ نوع من الحركة الاشتراكيّة في الدولة. ولكن المخزون الحيويّ للسومريّين نفد. فتسرّب البدو (أموريّون أخذوا بحياة الحضر) فدخلوا المدن واحتلّوا المواقع، فتفتّتت البلاد مرّة أخرى وتحوّلت إلى دويلات. في هذا الوقت برزت سلالتان مهمّتان : سلالة ايسين وسلالة لارسا. بعد هذا برزت سلالة بابل الصاعدة مع شومو ابوم مؤسّس سلالة حمورابي. أما فضل ايسين فهو أنها حفظت للخلف آثار اللغة السومريّة وحضارتها. ثالثًا : الديانة (أ) يخضع الفكر الدينيّ لدى السومريّين لمدلول "مي" القوّة الخفيّة الحاضرة في الأشياء. مي هو كائن قائم في ذاته، ولكن يأخذه أو يعطيه الآلهة الكبار. إذًا هو كائن لا شخصيّ. ففي سطرة من السطر، تصوّر سرقةُ مي من الإله انكي (اريدو) على يد الالاهة المرتبطة بالخصب انانة (أوروك). يظهر مي مرتبطًا بالحياة الثقافيّة والاجتماعيّة : المؤسّسة الملكيّة، فن الهندسة، فن الكتابة، القوّة الجنسيّة... إن مي المؤسّسة برج الهيكل يبهر بلاد سومر. ومن دون هذا المي تبدو الأشياء بلا قوّة. وإن المصير (نام) يشتق من انا مي (ما هو شيء). ولهذا يعني مي "وجد" ولكن بمعنى "وجد قويًّا". في الشتاء، تموت الأشياء وتفقد قوّتها. في عيد السنة الجديدة، يحتفل الملك باتّحاده المقدّس مع الالهة فتعود الحياة ويتحدّد المصير : نام... تار. أعاد الالهة القدرات إلى الأشياء. وهذه القوّة إلهيّة لأنّها تخصّ الالهة الذين يتصرّفون بها، ولكنّها ليست بإله. وعرض السومريّون أيضاً مشكلة البار المتألّم. وأنشدوا، مرّات عديدة، دمار المدن على يد البرابرة. ونُسب هذا الدمار الى نام تار، إلى القدر الذي حدّده الالهة. وهكذا يعني نام تار : اللعنة. في مثل هذه الديانة لعب السحر دورًا هامًّا. من هذا القبيل ترتبط الديانة السومريّة بزخم بدأ منذ القديم وأثّر تأثيرًا عميقًا على كلّ الشعوب التي اتّصلت به. (ب) يبدو بنتيون ( مجمع الآلهة) السومريّين غامضًا. "حين كان الالهة بشرًا، خلق الالهة البشر ليعملوا فيرتاحوا هم". هاتان العبارتان لا تنطبقان على الالهة الصغار مثل لوغلبندا، دوموزى (تموز)، جلجامش الذين ظلّوا أناسًا ممجّدين. بل على الالهة الكبار مثل انكي (اريدو)، إنليل (نيفور) ناناسين (أور) أوتو (شماش. في لارسا) إنانة (عشتار. في أوروك)، آن الإله السامي. وهناك من حاول أن يفسّر بداية البنتيون بجمع آلهة المدن بطريقة تلفيقيّة، ولكن لا شيء يُسند هذه المحاولة. يجب أن نشدّد على نشاطين إلهيّين بالنسبة إلى العالم. أوّلاً : حين كانت الأرض شواشا أعطوا الأشياء "جيش حور" أي مخطّط بناء مرسوم على الحجر. هذا أولاً يعني أن الآلهة أعطوا الأشياء شكلها الأوّل يوم كانوا لا يزالون هم "بشرا". هذا التفسير يقابل ما يخبره بيروسيوس عن أكالو أو الحكماء الذين سلّموا البشر قبل الطوفان نماذج التنظيم الاجتماعي. ثانيًا : أعطى الالهة هذه الاشكالَ الأولى "مي" أو قوّة الحياة. في العلاقات بين الالهة والبشر، لعبت الملكيّة المقدّسة وعبادة تموز دورًا هامًّا. وفي بعض الظروف كان الملك تموز مثلاً في دراما الاتحاد المقدّس الذي تمثّله الجدرانيّات. وهذا التماثل بين الملك وتموز يفسّر حقّ "الليلة الأولى" الذي يعود إليه ولماذا كان أناس يموتون حين يموت. تكشف هذه الظاهرة إيمانًا عميقًا بالحياة بعد الموت، لا سيّمَا وأنهم كانوا يضعون في القبور أمورًا يحتاج إليها الإنسان. والمبدأ القائل : يعمل البشر ليستريح الالهة، ينتج عنه أن العمل ليس ملك الإنسان في الحياة الاجتماعيّة. كل عمل هو ملك الهيكل. فيتذمّر البار المتألّم : كل الناس حصتك، وحصّتي العمل المضني. نحن هنا أمام ديانة لها أبعادها. فتقسيم الخيرات يتمّ بواسطة التسلسليّة. وهذا النظام فرض خلق الإدارة، وولّد فن الكتابة. وهكذا صارت الوثائق الاقتصاديّة أهمّ مرجع لمعرفة ديانة سومر وشعائر عبادتها. في العبادة لعبت الذبيحة الدور الأهمّ. لا نعرف كتاب رتب سومري. ولكن هناك نصوصاً عديدة تتيح لنا أن نستنتج أن عيد رأس السنة (زا موك) وعيد "الكيتي" كانا موضوع احتفال عظيم. وارتبطت بهذين العيدين أفضل التآليف الأدبيّة. وبين الكاهنات، احتلّت كاهنة "اين" مكانة هامة. كانت من نسل ملكي فمثلت إنانة (عشتار ) في طقس الاتحاد المقدّس. وكان يخدمها عدد من الرجال والنساء يمكننا أن نعتبرهم خدام الهيكل لا كهنة.
1}