بولس: بولس
أوّلاً : حياته (أ) مراجع حياة بولس هي رسائله وأعمال الرسل بشكل خاص. يعتبر الشرّاح المحافظون أن 13 رسالة هي لبولس. ولكن قسمًا كبيرًا منها يُنسب إلى تلميذ من تلاميذ بولس. ولكن النقد العقلاني يحتفظ بالرسائل التالية : رو، 1كور، 2كور، غل، 1تس، فل، كو، فلم. ويشك النقّاد في أف، 2تس، 1تم، 2تم، تي، ويقولون إن فيها فقط عناصر بولسيّة أو هي دوِّنت في المدرسة البولسيّة. (ب) نستطيع أن نحدّد بدقة كرونولوجيا حياة بولس. فالنقاط الثابتة هي : موت هيرودس أغريبا سنة 44. وإذا كان بولس مثُل أمام غاليون في حزيران تموز 52، فهذا يعني أنه وصل إلى كورنثوس في نهاية سنة 50 أو بداية 51 (أع 18 :11). قبل هذا التاريخ، كان قد أنهى رحلته الرسوليّة الثانية التي دامت سنة ونصف السنة (أع 15 :36-18 :12)، وقضى بضعة أيام في أنطاكية (أع 15 :36). إذًا انعقد مجمع أورشليم (أع 15 :1 ي؛ غل 2 :1-10) سنة 49. واهتدى بولس إلى المسيحيّة قبل هذا التاريخ بأربع عشرة سنة (غل 2 :1؛ رج 1 :18 أو 17) إذا انطلقنا من السفر إلى أورشليم في غل 1 :18). إذًا سنة 35-36 أو 33-34 (في عبارات : بعد 14 سنة أو بعد 3 سنوات. السنة التي ابتدأت تحسب سنة كاملة). بعد أن مثل بولس أمام غاليون، مكث أيضاً في كورنثوس أيامًا عديدة (أع 18 :18)، ثمّ ذهب إلى انطاكية، حيث قضى بعض الوقت (أع 18 :19 ي). بدأت رحلته الرسوليّة الثالثة سنة 53 ودامت 5 سنوات، قضى منها ثلاث سنوات في أفسس (أع 19 :8، 10؛ 20 :31)، ثلاثة أشهر في أخائية (أع 20 :3)، وبضعة أشهر في فريجية وغلاطية (أع 18 :13) وربما في ايليرية (رو 15 :19؛ رج أع 20 :2) والوقت الضروريّ للعودة إلى قيصريّة (أع 20 :3-21 :4). وانتهى هذا السفر في أورشليم حيث صار بولس سجينًا ربّما سنة 58. وظلّ سجينًا لدى فيلكس وفستس سنتين (أع 24 :27). إذًا حتى سنة 60. ثمّ أرسِل إلى رومة حيث وصل في ربيع 61. وظلّ هناك سجينًا مدّة سنتين (61-63). مات بولس شهيدًا في رومة سنة 66 حسب القدّيس ابيفانيوس، سنة 67 حسب أوسابيوس، سنة 68 حسب إيرونيموس. أقدم رسائله : 1تس، 2تس سنة 51-52؛ غل، 1كور، 2كور (سنة 57) رو (نهاية 57). رسائل الأسر (أف، فلم، كو، غل) سنة 61-63. وهناك خلاف حول تاريخ كتابة الرسائل الرعاويّة وعب. (ج) شباب بولس. وُلد بولس في كيليكية (أع 21 :39) من عائلة يهوديّة ومن قبيلة بنيامين (رو 11 :1؛ غل 3 :5). وبما أنه في مقتل استفانوس (أع 8 :1) أي سنة 33-34 أو 35-36 كان بعد شابًّا (حوالي 30 سنة. في 62-63 يسمّي نفسه شيخًا : فلم 9)، يكون قد وُلد في أولى سنوات الزمن المسيحيّ. كان والداه عبرانيّين (فل 3 :5) أي من اليهود الذين يتكلّمون الأراميّة ومن الفريسيّين (أع 23 :6؛ فل 3 :5). كان والده مواطنًا طرسوسيًّا (أع 21 :39) ومواطنًا رومانيًّا (أع 22 :28). هذا يعني أنه كان رجلاً ميسورًا (رج فل 3 : 8). خُتن بولس في اليوم الثامن بعد ولادته (لا 12 :3؛ فل 3 :5)، وتسمّى باسم شاول (أي سأله والداه وطلباه. في اليونانيّة : ساولوس). وتسمّى في الوقت نفسه باسم رومانيّ : بولس (أع 13 :9). تثقّف الولد في اللغة الأراميّة (كان يتكلّمها بولس بطلاقة : أع 21 :40)، وتربّى على ممارسة شريعة موسى وفرائض الآباء ممارسة دقيقة. وحسب العادة اليهوديّة، تعلّم أن يقرأ اللغة العبريّة. منذ حداثته تعلّم أيضاً اليونانيّة، لغة التعامل اليوميّ في طرسوس. وبسبب تربيته الفرّيسيّة، ليس من الأكيد أنّه ذهب إلى المدارس اليونانيّة العديدة (في بلدته كانت أفسس مركزًا هلينيًّا هامًّا). ولكن نقدر أن نفترض أنه ذهب إلى مثل هذه المدارس بسبب معرفته الواسعة للغة اليونانيّة وأفكارها ولأساليب الجدال. فهو يورد بعض كتّاب اليونان (في أع 17 :28 : أراتوس. في 1كور 15 :33 : ميناندريس، في تي 1 :12 أبيماناديس). ولكن هذه الأقوال لا تبرهن على أنّ بولسُ قرأ مؤلّفات هؤلاء الكتّاب. نجهل متى أرسِل بولس إلى أورشليم ليتعرّف إلى الكتاب المقدّس والتقليد وأساليب الرابينيّين بطريقة عميقة. في تلك المدينة كان تلميذَ غمالائيل (أع 22 :3)، وبقيادته دخل في الأساليب التأويليّة لدى الرابينيّين وصار عضوًا في شيعة الفريسيّين (فل 3 :5)، فاهتمّ بممارسة الشريعة وتقليد الآباء ممارسة دقيقة (غل 1 :14؛ أع 22 :3). وحسب التقليد اليهوديّ، تعلّم بولس مهنة هي صنع الخيام (أع 18 :3). كان عمله يقوم بجمع القماش أو بحياكته. وقد عُرفت كيليكية بالكيليكيات أي هذا القماش المنسوج من شعر الماعز. ومن هذا القماش كانوا يصنعون الخيام ومعاطف السفر. وخلال أعماله الرسوليّة، مارس بولس مهنته ليقوم بأود حياته وليحافظ على استقلاله بالنسبة إلى الجماعات (أع 18 :3؛ 1كور 4 :12؛ 9 :15؛ 1تس 2 :9). (د) مُضطهد الكنيسة. كان بولس ولا شك من أشد خصوم استفانوس (أع 6 :9 ي؛ 8 :1؛ 22 :20) الذي كان يكرز بالطابع المؤقّت للشريعة الموسويّة والعبادة اليهوديّة (7 :2-16، 43-45، 48-50؛ رج 6 :13) ويعلن أن يسوع المصلوب قد رفعه الله وهو يشارك منذ الآن في قدرة الله الملكيّة (أع 7 :56)، ويجب أن يُكرَم على أنّه الرب (أع 7 :60؛ رج 2 :36). وبما أن بولس كان فرّيسيًّا متعصّبًا، لم يقدر أن يتحمّل هذا الكلام. فالاعتراف بيسوع كمسيح ورب يتعارض وأفكاره عن المسيح الآتي وعن سموّ الله المطلق. فيسوع قد حُكم عليه كمجدّف ومات على الصليب. ولهذا فالاعتراف بمن لعنه الله أنه مسيح وربّ بدا له شكًّا (1كور 1 :23) وتجديفًا. من هنا انطلقت غيرته التي بها حارب الجماعة المسيحيّة (أع 8 :1، 3؛ 9 :1 ي؛ 26 :10-12؛ غل 1 :13؛ فل 3 :6؛ 1كور 15 :9). وقام بهذه الحرب ضدّ الجماعة باندفاع (فل 3 :6) وعنف (1تم 1 :13)، وهو متيقّن أنه يدافع عن قضيّة الله (أع 26 :9). وكان قاسيًا أيضاً على سائر الجماعات المسيحيّة في اليهوديّة، وأراد أن يدفعها لكي تجحد اسم يسوع (أع 26 :11 ي؛ رج 9 :1 ي). وإذ تجادل بولس مع المسيحيّين، تعلّم بعض الشيء عن يسوع وتعليمه. لسنا متأكّدين أنه عرف يسوع شخصيًّا. ولكن لا شيء يمنع ذلك من الناحية الكرونولوجيّة (أع 22 :3). ولكن بولس لا يتحدّث بعد اهتدائهه إلاَّ عن لقائه بالمسيح الممجّد (1كور 9 :1؛ 15 :8 ي؛ غل 1 :15)، فلهذا لا يبدو من المعقول أنه تعرّف إلى يسوع بالجسد. أمّا نص 2كور 5 :16 فهو يدلّ على معرفة بولس ليسوع حسب معتقداته اليهوديّة. (هـ) اهتداء بولس. يُروى هذا الاهتداء ثلاث مرّات (أع 9 :1-19؛ 22 :5-16؛ 26 :12-20). ويشير إليه بولس في رسائله (غل 1 :12-24؛ 1كور 9 :1؛ 15 :8 ي؛ فل 3 :4-12؛ 1تم 1 :13). تختلف هذه الشهادات في التفاصيل، ولكنّها تتّفق على الجوهر. كان بولس يضطهد المسيحيّين (أع 9 :1-3؛ 22 :4-5؛ 26 :9-11؛ غل 1 :13). قرب دمشق (أع 9 :3؛ 22 :6؛ 26 :11؛ غل 1 :17) رأى المسيح يظهر عليه (أع 9 :4-6، 17؛ 22 :6-8؛ 26 :13-18؛ 1كور 15 :8 ي؛ 9 :1؛ غل 1 :12-16)، فعاد إلى نفسه حالاً وصار تلميذ يسوع ورسوله (غل 1 :12-15-16؛ أع 22 :15، 21؛ 26 :17 ي؛ رج 9 :15). وتدلّ حواشي أع وتأكيدات بولس نفسه، أن هذه العودة لم تكن منتظرة، وأنها لم تتمّ دون صراع داخليّ سابق. أدركه المسيح (فل 3 :12)، فجاء إلى الإيمان كالسقط (1كور 3 :12) الذي يُولد للحياة. إذًا، لا بطريقة تدريجيّة، بل فجأة وبطريقة غير طبيعيّة، ومن دون استعداد سيكولوجي. لا نستطيع أن نستند إلى "صعب عليك أن تُقاومني" (أع 26 :14) لنقول عكس ذلك. فنحن أمام قول مأثور يعني أن الإنسان يعارض عبثًا إرادة الله. لا يصوّر بولس ظهور يسوع، ولكنّه يذكر الصوت الذي كلّمه بالأراميّة والنور والعمى وتأثير كلّ هذا على رفاقه في السفر. وقد جعل ظهور المسيح له على مستوى ظهوره على سائر الرسل : رأى المسيح (1كور 9 :1) كما رآه الآخرون. تراء ى له المسيح كما تراءى لسائر الرسل ولشهود عديدين (1كور 15 :5-9). ورؤية المسيح القائم من الموت هي البرهان على قيامة يسوع وقيامة كلّ المسيحيّين. وهو يميّز بوضوح هذه الرؤية عن سائر الرؤى التي ستكون له فيما بعد (2كور 12 :1-4؛ غل 2 :2). إذًا لا نستطيع أن نفسّر بطريقة سيكولوجيّة مجيء بولس إلى المسيح. إنه عمل النعمة وثمر اختيار ودعوة خاصّة (غل 1 :1-15). في هذا الوقت، كان بولس موضع نعمة خاصة من الله الذي دعاه برحمته وحبّه (1كور 15 :9 ي؛ غل 1 :15؛ رو 1 :1). لقد عرف أن المسيح هو ابن الله وهو الربّ (غل 1 :15)، وأنه يكوِّن مع مؤمنيه وحدة حيّة لا تنفصم (أع 9 :4. لماذا تضطهدني؟). هذه الاختبارات هي أساس النقاط الجوهريّة في تعليمه. (و) الرسول 1) بداية النشاط الرسوليّ (34-44). حسب أع 9 :20 قضى بولس بضعة أيام في دمشق عند التلاميذ. حسب غل 1 :17، انطلق حالاً إلى (بلاد العرب) أي إلى مملكة الانباط. بعد هذا، عاد إلى دمشق (غل 1 :17) حيث جادل اليهود أيامًا عديدة وبرهن لهم أنّ يسوع هو المسيح (أع 9 :22 ي). فعزم اليهود على قتل بولس. ولكن جاء من نبّهه، فغامر وهرب من المدينة التي كانت أبوابها مقفلة (أع 9 :23-25؛ 2كور 11 :32). ومضت ثلاث سنوات على اعتماده (غل 1 :18). فانطلق بولس من دمشق إلى أورشليم ليتعرّف إلى كيفا (بطرس). وظلّ هناك 15يومًا. ولم يرَ من سائر الرسل سوى يعقوب أخي الرب (غل 1 :18 ي). حسب أع 9 :26-29، استقبله التلاميذ بحذر. ولكن بعد أن هدّأ روعَهم برنابا، استطاع بولس أن يكرز بثقة. وبدأ يخاطب اليهود المتكلمين باللغة اليونانية (الهلينيّين). ولكنهم اضطهدوه فاعتزل في طرسوس (أع 9 :30، غل 1 :21) وأقام هناك 4 أو 5 سنوات وأسّس جماعات مسيحيّة (أع 15 :23، 41). من طرسوس أخذه برنابا إلى أنطاكية في سورية. وعمل الرسولان معًا سنة كاملة وأحرزا نجاحًا كبيرًا. وحصل بولس على رؤية سيتحدّث عنها بتحفّظ بعد 14سنة (2كور 12 :1-4؛ سنة 57). وعلى أثر مجاعة (بين سنة 44 وسنة 46) أُرسل بولسُ وبرنابا إلى أورشليم ليحملا للفقراء عطيّة أنطاكية (أع 11 :26 ي). لم تُذكر هذه السفرة التي تمّت سنة 44 في غل. بعد بضعة أيام عاد بولس وبرنابا إلى أنطاكية وأخذا معهما يوحنا مرقس نسيب برنابا (كو 4 :10). 2) الأسفار الرسوليّة. يورد أع ثلاث رحلات لبولس. والخبر تارة مفصّل وتارة موجز. نلاحظ نقطة أساسيّة وهي أن كلّ الأسفار تنطلق من أنطاكية، مركز المسيحيّة الهلّينيّة، لا من أورشليم، مركز المسيحيّين المتهوّدين. توجّه بولس أوّلاً إلى اليهود، أبناء دينه، ولكنه أجبر سريعًا على التوجّه إلى الوثنيّين. وها نحن نعطي صورة سريعة عن هذه الأسفار. - الرحلة الأولى (44-49، أع 13 :1-14 :28). اتّخذت جماعة أنطاكية مبادرة احتفاليّة (أع 13 :1-3؛ 14 :27)، فذهب بولس وبرنابا ويوحنا مرقس حيث كانت قد تأسّست جماعات مسيحيّة (أع 11 :19). كرزوا في سلاميس، وعبروا كلّ الجزيرة حتى بافوس، وهناك هدى الرسولُ سرجيوس بولس إلى المسيحيّة، وضرب بالعمى الساحر اليهودي بريشوع (أع 13 :4-12). ومن بافوس انطلقوا إلى برجة وإلى بمفيلية حيث تركهما مرقس وعاد إلى أورشليم. وبعد سفرة مليئة بالأخطار (رج 2كور 11 :26)، وصل بولس وبرنابا إلى أنطاكية في بسيدية حيث لقيا بعض النجاح لدى اليهود والمتعبّدين قبل أن يتوجّها إلى الوثنيّين. وأجبرا على ترك المدينة (أع 13 :14، 43-52)، فذهبا إلى أيقونية وطبّقا الأسلوب عينه فوصلا إلى النتيجة عينها. وبعد بعض الوقت، ذهبا إلى لسترة ودربة والجوار (أع 14 :1-7). في لسترة ظنّ الناس أنّ بولس وبرنابا من الآلهة : نزلا على الأرض في زيّ البشر. وجاء يهود من أنطاكية وأيقونية فألّبوا الشعب : رُجم بولس (رج 2كور 11 :25، 2تم 3 :10 ي). ولكنه في اليوم التالي انطلق مع برنابا إلى دربة حيث ربح إلى الإيمان تلاميذ عديدين (أع 14 :8-20). وفي نهاية المطاف، عاد الرسولان إلى لسترة وأيقونية وأنطاكية بسيدية فشجّعا المؤمنين ونظّما الجماعة (أع 14 :21-25). وعبرا أتالية ووصلا إلى أنطاكية وقدّما تقريرًا عن رسالتهما إلى الجماعة (أع 14 :21-28). - مجمع أورشليم (سنة 49، أع 15؛ غل 2 :1-10). وجاء بعض المسيحيّين المتهوّدين من أورشليم وبلبلوا جماعة أنطاكية المسيحيّة التي فرحت حين سمعت باهتداء وثنيّين عديدين. قبلَ برنابا وبولسُ الوثنيّين في الكنيسة، ولم يفرضا عليهم الختان وشرائع موسى. ورأت أنطاكية أن ما فعل الرسولان أمر عاديّ. أمّا في أورشليم فكان التلاميذ متعلّقين بالشريعة، ويعتبرون أنّ اللامختون هو غير طاهر (هو نجس). فمن لم يُختن حسب شريعة موسى، لا يمكن أن يخلص في نظرهم (أع 15 :1). هذا اليقين كان معارضًا لتعليم بولس الذي يعتبر أنّ البرّ ليس ثمرة أعمال الشريعة بل ثمرة الإيمان بيسوع المسيح (غل 2 :16 ي)، كما كان يعرِّض للخطر العمل المسيحيّ لدى الوثنيّين. وإذ أرادت جماعة أنطاكية أن تفضّ هذا الخلاف أرسلت بولس وبرنابا وتيطس (غل 2 :3) وغيرهم إلى أورشليم. ناقش الجميع المسألة وحلّوها حسب نظرة بولس. - خلاف مع بطرس (غل 2 :11-24). تقرّر في أورشليم أن لا يُفرض الختانُ ورسوم الشريعة على المهتدين من الوثنيّة. ولكن لم يُقل أن المسيحيّين المهتدين يشاركون في الطعام الواحد. ولمّا جاء بطرس إلى أنطاكية، استنتجوا أن المسيحيّين الآتين من العالم الوثني والمسيحيّين المتهوّدين يشاركون في الطعام الواحد. لهذا أخذ الرسول بهذه الممارسة. ولكن حين جاء بعض المسيحيّين المتهوّدين من قبل يعقوب، انفصل بطرس عن الوثنيّين المهتدين. وتبعه كثيرون من جماعة أنطاكية ومنهم برنابا. رأى بولس الخطر حالاً، فاحتجّ علانية على بطرس : حارب من أجل الحريّة التي أعطاها المسيح للمؤمنين (غل 2 :9-14؛ 5 :1). ونستنتج من غل 2 :15 ي أنّ الخلاف فُضّ حسب نظرة بولس. - الرحلة الثانية (49-52؛ أع 15 :36-18 :22). لم يُقم بولس مدّة طويلة في أنطاكية، ولكنّه زار مع سيلا الجماعات المسيحيّة في سورية وكيليكية ودربة ولسترة وأنطاكية بسيدية. تعرّف في لسترة إلى تيموتاوس الذي صار من معاونيه الأمناء (أع 15 :36-16 :5). من هناك ذهب مع سيلا إلى فريجية وبلاد غلاطية حيث أقعده المرض. ولكن أهل غلاطية استقبلوه كما لو كان ملاكًا من السماء، كما لو كان المسيح نفسه (غل 4 :13-15). وعبر الرسولان ميسية فوصلا إلى ترواس (أع 16 :6-8). في ترواس وجد بولس طبيبًا (هو لوقا) انضمّ إليهما. ورأى في الليل رؤية : دعاه مكدونيّ ليعينه. فانطلق دون تأخير إلى مكدونية ووصل إلى فيلبّي عبر نيابوليس. في فيلبي، أسّس جماعة مسيحيّة مزدهرة ومؤلّفة بطريقة شبه حصريّة من الوثنيّين المهتدين (أع 16 :11-40؛ 1 تس 2 :2) الذين دلوا على تعلّق كبير ببولس (فل 1 :3-8، 10-16). وتبع الرسولان الطريق الاغناطية، فمرّا في أمفيبوليس ووصلا إلى تسالونيكي. هناك تكلّم بولس ثلاثة أسابيع في المجمع، وردّ بعض اليهود وكثيرًا من المتعبّدين. وكانت له أحاديث عديدة في البيوت (1 تس 2 :11) وبالأخص في المساء لأنّه كان يمارس مهنته في النهار (1تس 2 :7-10). ورغم معارضة اليهود (1تس 2 :14)، أسّس بولس في تسالونيكي جماعة مزدهرة ومؤلّفة خاصّة من وثنيّين مهتدّين. ومن تسالونيكي توجّه بولس وسيلا إلى بيرية حيث اهتدى إلى المسيحيّة عددٌ كبيرٌ من الوثنيّين واليهود الشرفاء. ولكن أجبرت المعارضةُ اليهوديّة بولسَ على ترك المدينة. فترك سيلا وتيموثاوس في بيرية وذهب وحده إلى أثينة (أع 17 :1-5). ثمّ لحق تيموتاوس ببولس، ولكن بولس أعاده إلى مكدونية (1 تس 3 :1-6). في أثينة بشّر بولس في المجمع وفي الساحة (أغورا). واهتمّ بعض سامعيه (وكان منهم الرواقيون والأبيقوريون) بتعليمه، ودعوه ليعرضه على الأريوباغوس. هناك تكلّم عن الإلاه المجهول. ولكن حين حدّثهم عن الدينونة والقيامة، أوقفه السامعون عن الكلام. ولم يهتدِ إلى المسيحيّة إلاّ عدد قليل من الوثنيّين. فسبّب هذا الفشلُ لبولس حزنًا عميقًا (1تس 3 :3 ي)، وأحسّ باليأس (رج 1كور 2 :3). ووصل في هذه الحالة النفسيّة إلى كورنثوس وهو مصمّم منذ الآن على التخلّي عن البلاغة والحكمة البشريّة وأن لا يعرف إلاّ المسيح وأن لا يعظ إلاّ بالمسيح (1كور 2 :2). في كورنتوس كان مدّة 18 شهرًا ضيفا على أكيلا وبرسكلّة. كان يمارس مهنته خلال أيام الأسبوع، ويبشّر يوم السبت في المجمع. ولكن حين حمل إليه سيلا وتيموتاوس المساعدة الماديّة من أهل فيلبي (2كور 11 :9؛ غل 4 :16)، تكرّس كلّيًّا للبشارة. ردّ إلى الإيمان بعض اليهود (أع 18 :8؛ 1كور 1 :14) وعددًا كبيرًا من الوثنيّين من الطبقة الفقيرة والأميّة (1كور 1 :26). وإذ كان في كورنتوس، كتب 1تس وربّما 2تس. نجح، فحسده اليهود وشكوه أمام غاليون، لأنّه ينشر تعليمًا غير مسموح به. كان هذا في بداية قنصليّة غاليون (منتصف 52). ولكن غاليون ردّ شكواهم. ومن كورنثوس أبحر بولس مع أكيلا وبرسكلّة إلى سورية. وخلال رحلته ترك رفاقه في أفسس ونزل في قيصريّة ثمّ زار أورشليم وعاد إلى أنطاكية. - الرحلة الثالثة (53-58، أع 18 :23-21 :14). وانطلق بولس من جديد إلى غلاطية (غل 4 :13) ليتفقّد جماعات يسود فيها السلام والتقوى (غل 1 :6، 5 :7). مرّ عبر فريجية واجتاز الجبال الوسطى في آسية الصغرى كما اجتاز وادي مياندريس فوصل إلى أفسس (أع 18 :23؛ 19 :1، 8، 10؛ 20 :31). وكان أكيلا وبرسكلّة قد هيأا الحقل للرسالة : كمّلا التعليم الذي أعطاه بولس لابلّوس، ذاك اليهوديّ الاسكندرانيّ، العالم والخطيب، الذي بشّر بالمسيحيّة بغيرة ونجاح في المجمع ثم انطلق إلى كورنثوس (أع 18 :24-28، 19 :1). في أفسس تعرّف بولس إلى بعض تلاميذ يوحنا المعمدان فقادهم إلى المسيحيّة (أع 19 :2-7). وكرز ثلاثة أشهر في المجمع. وبما أن معظم اليهود رفضوا الإيمان، التفت بولس إلى الوثنيّين وبشّر في مدرسة بليغ يونانيّ اسمه تيرانوس. يروي لوقا بعض أحداث من نشاط بولس في أفسس : شفاء، طرد شياطين، إحراق كتب سحر (أع 19 :11-19)، وثورة وضعت حدًّا لإقامة بولس التي دامت ثلاث سنوات (أع 19 :23-20 :1) فانتشرت المسيحيّة في كلّ آسية (أع 19 :26). ففي أفسس انفتح باب كبير (1كور 16 :9) أمام نشاط بولس ومعاونيه (تيموثاوس، تيطس، أرستس، غايوس، أرسترخس، أبفراس : أع 19 :22؛ 2كور 12 :18؛ كو 1 :7)، وتأسّست جماعات في كولوسي ولاودكية وهيرابوليس (كو 1 :7؛ 2 :1؛ 4 :12 ي) وترواس (أع 20 :5-12؛ 2كور 2 :12)، وفي إزمير وتياتيرة وسارديس وفيلادلفية (رؤ 1 :11). ولقي بولس في أفسس المحن العديدة القاسية : اضطهادات من قبل اليهود (أع 20 :19؛ رج 21 :27)، محنة ضايقته كثيرًا وتعدّت قواه فخاف على حياته (2كور 1 :8)، مــرض أو خطــر مــوت (رج 2كــور 1 :9 ي؛ 11 :23)، صراع ضدّ الوحوش (بالمعنى الحقيقي أو المجازي : صراع ضدّ أناس أشرار وشرسين). يتحدّث بولس في رو 16 :4 عن خطر موت حصل له في أفسس وخلّصه منه أكيلا وبرسكلّة، وسبّبت له بعض الجماعات همومًا كبيرة. فالغلاطيّون تأثّروا بالمسيحيّين المتهوّدين في أورشليم. لهذا كتب إليهم غل. وتسرّبت تجاوزات أخلاقيّة في جماعة كورنثوس، فكتب إليهم بولس رسالة ضاعت (1كور 5 :9)، وأرسل تيموثاوس وأرستس (أع 19 :22، 1كور 4 :17). وحمل بعض الكورنثيّين أسئلة أجاب عليها بولس في رسالة (1كور) دوّنت سنة 55 أو 56. خلال هذا الوقت، جاء المسيحيّون المتهوّدون إلى كورنثوس، وأخذوا يزعزعون سلطة بولس فيها. فقرّر أخيرًا أن يذهب شخصيًّا إلى كورنثوس (2كور 2 :1؛ 12 :14؛ 13 :1 ي). تسبّبت هذه الزيارة السريعة بالحزن، لأنّه لم يستطع أن يزيل حذر الكورنثيّين، بل إن أحد الكورنثيّين وجّه إليه كلامًا مهينًا (2كور 2 :1، 5؛ 7 :12؛ رج 12 :21). وبعد أن أقام فترة قصيرة في كورنثوس، عاد إلى أفسس ومن هناك كتب إلى الكورنثيّين وسط دموع كثيرة رسالة ثالثة (2كور 2 :4، 9؛ 7 :8، 12). في هذه الرسالة التي ضاعت والتي حملها تيطس، فرض بولس تكفيرًا من الجماعة وخضوعًا لسلطته (2كور 2 :9). وإذ كان ينتظر نتيجة هذه الرسالة ومهمّة تيطس، أجبر على ترك أفسس. فذهب إلى ترواس (أع 20 :1؛ 2كور 2 :13) حيث ترجّى أن يلتقي تيطس (2كور 2 :12 ي). وإذ تأخّر تيطس، عبر بولسُ البحر، ووصل إلى مكدونية. فالتقى تيطس (في فيلبّي) فعرف بخضوع الكورنثيّين وفرحَ. ومن مكدونية كتب إليهم 2كور (سنة 57). وبعد زيارة لجماعات مكدونية وسفرة إلى إلليريكون (رو 15 :19)، مرّ على الكورنثيّين كما وعدهم (1كور 16 :5 ي) ومكث عندهم ثلاثة أشهر (أع 20 :3). من كورنتوس كتب روم (نهاية 57 أو بداية 58) ليهيّئ الزيارة التي يستعدّ للقيام بها (أع 19 :21). وأراد أن يبحر إلى سورية مع موفدي الجماعة الذين جمعوا الصدقات للمسيحيّين. ولكنه أحسّ بمؤامرة يدبّرها اليهود، فسار بطريق البرّ إلى فيلبّي حيث انضمّ إليه لوقا، ووصل الاثنان إلى ترواس حيث كان ينتظره رفاق السفر. ومن ترواس توجّه إلى ميليتس حيث طلب شيوخَ أفسس ليودّعهم. لقد عرف أنّه لن يعود ليراهم. ومن ميليتس أبحر بولس إلى صور حيث حاول بعض الأنبياء أن يمنعوه من الصعود إلى أورشليم. ولكن بولس تابع طريقه إلى بتولمايس (عكا). ومن هناك اتّجه بطريق البحر إلى قيصريّة حيث كان بضعة أيّام ضيفًا على فيلبّس أحد السبعة (أع 6 :5). وأنبأ أغابوس، وهو نبيّ من اليهوديّة، أن القيود والسجن تنتظر بولس في أورشليم، ولكن لا شيء يمنع بولس من متابعة طريقه. (ز) سجين المسيح (58-63، أع 21 :17-28 :31). 1) في أورشليم (أع 21 :17-23 :32). استقبل المسيحيّون بولس بفرح. وإذ أراد يعقوب أن يحميه من أفكار مسبقة لدى المسيحيّين المتهوّدين، نصحه بأن يخضع لبعض الطقوس اليهوديّة. في هذا الوقت، هاجم الشعبُ الهائج بولس، ولم يستطع يعقوب أن يفعل شيئًا من أجله. وفي اللحظة الأخيرة، جاء الجنود الرومان، فخلّصوه من أيدي اليهود، وجعلوه بأمان بعد أن اقتادوه سجينًا. ولما عرف الضابط الرومانيّ هويّته، جعله يمثل أمام السنهدرين. ولكن انشقّ السنهدرين، وانتهت المحاكمة من دون نتيجة. وإذ عرف الضابط أن 40 يهوديًّا تآمروا على قتل بولس، أرسله برفقة الحامية إلى قيصريّة حيث يقيم الوالي فيلكس. 2) في قيصريّة (نهاية 58-60، أع 23 : 33-26 :32). اتّهم اليهود بولس أمام فيلكس بأنّه أحدث القلاقل ودنّس الهيكل. فأقنع بولس الوالي بكذب اتّهاماتهم. ولكن فيلكس أخّر قراره منتظرًا من بولس أن يشتري حرّيته بمال يدفعه له. ومرّت سنتان. ثمّ عُزل فيلكس وحلّ محلّه فستوس. مثُل بولس أمام فستوس الذي سأله (ليرضي اليهود) إن كان يقبل أن يحاكَم في أورشليم. فاستأنف الرسول دعواه إلى رومة وهو المواطن الرومانيّ. 3) السفر إلى رومة (نهاية 60-ربيع 62، أع 27 :1-28 :16). سُلّم بولس مع سجناء آخرين إلى ضابط ومجموعة من الجنود، وسافر لوقا وأرسترخس معهم. ساروا بمحاذاة كريت ودفعتهم عاصفة هوجاء حتى شاطئ مالطة حيث تفكّك المركب من شدّة الأمواج. وقضى المسافرون الشتاء في مالطة. ثمّ ذهبوا عبر صقلّية إلى بوطيولي حيث كان بولس ورفاقه ضيوفًا على الجماعة المسيحيّة هناك. وعبْر طريق أبيا، وصلوا إلى رومة. 4) في رومة (بداية 61-63، أع 28 :16-31). أقام بولس ورفيقاه في بيت محايد. وكان الرسول بحراسة جنديّ، وكان باستطاعته أن يستقبل من يشاء (كو 4 :10). بعد هذا، وصل كثير من معاونيه وموفدون من الجماعات المسيحيّة، تيموثاوس (كو 1 :1)، مرقس (كو 4 :10؛ فلم 24)، ابفراس من كولوسي (كو 1 :7 ي)، تيخيكس من آسية الصغرى وبالتحديد من أفسس (كو 4:7)، ديماس (كو 4:14)، ابفرُديتس من فيلبي (فل 2:25)، يشوع يوستس (كو 4:11)، لوقا (كو 4:14)، أونسيمس (كو 4:9؛ فلم 1 ي). وإن أرسترخس وأبفراس قاسماه طوعًا سجنه (أع 27:2؛ كو 4:10؛ فلم 23). استفاد بولس من حرّيته النسبيّة ليبشّر بالإنجيل أوّلاً أمام اليهود (أع 27:17)، ثمّ أمام الجنود الموكلين بحراسته، وإلى أشخاص رومانيّين (فل 1:12 ي). من رومة كتب رسائل السجن: أف،كو، فل، فلم. وأمل في الرسالتين الأخيرتين أن يُخلى سراحُه قريبًا (فلم 22؛ فل 1:26؛ 2:24). ولمّح أع 28:30 إلى الشيء عينه، فقال إنّ بولس عاش سنتين في بيته دون أن يزيد شيئًا عن محاكمته. (ح) أواخر سنوات بولس نتعرّف إلى أواخر سنوات بولس حين نجمع المعطيات المتفرّقة في الرسائل الرعاويّة (هناك تفاصيل محفوظة لدى اكلمنضوس الرومانيّ). هناك من يقول إنّ بولس أعدم خلال اضطهاد نيرون سنة 64. وهناك من يقول إنه زار إسبانية (رو 15:24، 28) وعمل في كريت (تي 1:5) وأفسس (1تم 1:3). من هناك زار كولوسي (فلم 22) وهيرابوليس ولاودكية وميليتس (2تم 4:20) ومكدونية. من نيكوبوليس في أبايرس (اليونان) كتب تي، 1 تم. ويظنّ آخرون أنه كان في الليريكون (2تم 4:10) وأنه عاد إلى أفسس (1تم 5:14) مارًّا في ترواس (2تم 4؛13). مهما يكن من أمر، تفترض 2تم أن بولس سُجن من جديد ولبث في رومة (2تم 1:8، 16-17؛ 2:9) حيث كان لوقا وحده معه (2تم 4:10 ي). وتشكّى بولس بأنّه لم يجد معه أحدًا في دفاعه الأول (2تم 4:16)، وأنّ مسيحيّي آسية تخلّوا عنه (2تم 1:15). لا نجد نصًّا يتحدّث عن علاقات بولس مع بطرس الذي كان في رومة في ذلك الوقت. ويذكر بولس بعض التلاميذ الأمناء الذين ساندوه: أونسيمس، تيطس، كريسكيس، تيخيكس الذي أرسله إلى دلماطية وغلاطية (أو غالية أي فرنسا) وأفسس (2تم 4:10، 12). وهو يستعدّ الآن للاستشهاد (2تم 4:7 ي). يقول التقليد الرومانيّ إن رأسه قطع خارج المدينة قرب مياه سيلفيا (اليوم: الينابيع الثلاثة). وأنه دفن قرب طريق أوستيا سنة 67. ثانيًا: شخصيّته (أ) شكل بولس وطبعه لم يكن بولس شخصًا جذَّابًا، وما كان يقدر أن يفرض نفسه على خصومه (2كور 10:10). ويشير هو بنفسه إلى قصر قامته (2كور 10:12-14). كانت صحّته سيّئة، وكان يتألّم من مرض يصوّره كشوكة في لحمه، كضربة من الشيطان (1كور 12:7-9)، كداء متعب ومذلّ ومزمن (غل 4:13-15). ولكن طبعه كان طبع قائد، وإرادته حديديّة، وثباته يتحدّى التجارب. كان يملك حبّ المبادرة، والقدرة على العمل، وإمكانيّة لاحتمال الصعوبات خارقة. كان مندفعًا وجامحًا ومُتسلّطًا، يستسلم كلّيًّا إلى الحب أو إلى البغض. ورغم هذا، تحلّى بالنحافة والحساسية والقلب الحـنــون (رج 1تـس 2:7 ي؛ 2كــور 12:15؛ غــل 4:19 ي؛ فل 1:8...) الذي يتعلّق بالناس ويدفعهم إلى محبته. تحلّى بقلب يحسّ بضيق الآخرين وألمهم. وكان بولس مفكّرًا حدسيًّا يدرك الحقيقة الدينيّة بالتأمّل والصلاة أكثر منه بالبراهين. ولكنّه كان أيضاً صاحب منطق قويّ، يعرض الجدال على الطريقة الرابينيّة. لم يهتمّ للطبيعة وللفن، بل كان بالأحرى عالمًا بنفسه وبنفس الآخرين. (ب) بولس كاتب موهوب. مفرداته كثيرة، ومعرفته باللغة جيّدة. لغته لغة اليونانيّين المثقّفين مع عبارات مأخوذة من السبعينيّة. وهو يعطي بعض الكلمات معنى جديدًا. أسلوبه مهمل، وجمله متقطّعة ومبنيّة بناءً رديئًا. لم يطلب البلاغة وأسلوب الخطباء في عصره (1كور 2:1-4). ولكنّه وصل إلى بلاغة سامية (مثلاً 2كور 3:21-23؛ 13:1 ي؛ رو 8:31-39) بحركة أفكاره واندفاع عواطفه. يلجأ إلى لغة الجدل عند اليونانيّين، ويريد أن يدخل بسرعة في قلوب قرّائه كما يفعل الخطيب مع سامعيه. يناديهم، يطرح عليهم أسئلة (مثلاً رو 3:1، 3؛ غل 3:19)، يُدخل خصمًا يختلقه (رو 9:19؛ 11:19)، يقدّم اعتراضًا (رو 2:1، 3؛ 9:20؛ 14:4، 20، 22). يحبّ النقائض (الله والعالم، الإيمان والشريعة، الروح والجسد، البر والخطيئة، الروح والحرف، الإنسان الأوّل والإنسان الآخر، الإنسان الجديد والإنسان العتيق...) وتشخيص الأشياء (اعتبارها شخصًا حيا: الخطيئة، رو 7:13-14، البر: رو 10:6، الكتاب: غل 3:8...) والبراهين المتدرّجة من القليل إلى الكثير (رو 5:15-17؛ 11:12، 15)، ومن الصغير إلى الكبير (رو 5:9؛ 8:32؛ 11:24). (ج) بولس والمعلّمون اليهود. أخذ بولس من الرابينيّين أفكارهم الدينيّة ومعرفة عميقة للعهد القديم، كما أخذ جدليتهم وأساليب التأويل عندهم. فكما أن الرابّينيّين يعتبرون الأحداث والأشياء المذكورة في العهد القديم رموزًا إلى شريعة موسى، كذلك يرى بولس في أحداث تاريخ الخلاص رموزًا إلى التدبير الذي دشّنه المسيح. مثلاً سارة هي نموذج العهد الجديد وهاجر نموذج العهد القديم (غل 4:21-23؛ رج 1كور 10:6-11؛ 2كور 3:14-4:6). وهو يعتبر العهد القديم كلّه كأنّه تهيئة وصورة مسبقة عن الحقيقة والخلاص اللذين حملهما يسوع، ويفسّر الكتب المقدّسة حسب نظرة الإيمان المسيحيّ. فإذا نظرنا إلى التوراة من هذه الزاوية، كشفت أسرارَها التي لا يراها التأويل الحرفيّ أو التاريخيّ. في كل هذا يتبع بولس تأويل الرابينيّين الذين يعتبرون النصوص البيبليّة أقوالاً نستطيع أن نشرحها بمعزل عن قرينتها. وهو يأخذ بعض المواضيع من المدراش اليهوديّ: مثلاً إعلان الشريعة الموسويّة على يد الملائكة (غل 3:19)، الصخر المتنقّل (1كور 10:4)، أسماء الساحرين المصريّين (2تم 3:8). قيل عن بولس إنّه كان رابي مسيحيًّا امتلك روح المسيح بعد أن تخلّص من روتينيّة معلّميه اليهود وحبّهم للفتاوى. ثالثًا: لاهوته يحتلّ بولس كلاهوتيّ المكانة الأولى، لا في الجماعات المسيحيّة الأولى فحسب، بل في الكنيسة في كل الأزمان. كان أوّل من قدّم شميلة عقلانيّة لتعليم يسوع. إنّه ينبوع ما زال ينهل منه اللاّهوتيّون والمفكّرون المسيحيّون. (أ) ينابيع لاهوت بولس. 1) إيمانه اليهوديّ ومعتقداته الفرّيسيّة التي حافظ عليها في أمور عديدة: إيمان بإلاه واحد خالق وسيّد السماء والأرض، الذي تكلّم في الكتب المقدّسة مع شعبه، الذي سيظهر في نهاية الكون على كل البشر كديّان وملك ليعطي كلّ واحد الجزاء العادل لأعماله. قيامة الموتى. الإيمان بالملائكة والشياطين. الأنتروبولوجيا (النفس، الجسد، الروح). علم الأخلاق (الوصايا، الدكالوغ). وعرف بولس أيضاً تعاليم الشيع اليهوديّة ولاسيّمَا تعاليم جماعة قمران. 2) تعليم يسوع وإيمان الجماعة الأولى. لا شكّ في أنّ بولس عرف بواسطة التقليد أقوال يسوع وأعماله. وهو يربط بإيمان الجماعة الأولى تعليمَه عن الربّ وابن الله الذي صار إنسانًا لخلاص كل إنسان، الذي مات وقام. ويتوسّع في هذا التعليم فيتحدّث عن الربّ على أنه وسيط الخلاص الوحيد (فل 2:8-11؛ أف 1:10، 20-22؛ كو 1:18-20؛ 2:19؛ 1كور 15:20-28؛ رج رو 8:9-23) وسيط الخليقة (كو 1:16 ي؛ 1كور 8:6؛ عب 1:2؛ رج رو 11:36) الموجود قبل الزمن (رو 1:3 ي؛ فل2:6-11) والمشارك حقًّا في الطبيعة الإلاهيّة (رو 9:5؛ تي 2:13؛ عب 1:8). 3) إيحاءات يسوع الشخصيّة (أع 9:5؛ غل 1:1، 15-16؛ 1كور 9:1؛ 15:8)، إيحاءات الله (2كور 12:1-4؛ أف 3:3-6؛ 1كور 2:7-13). (ب) انجيل بولس لخّص بولس إنجيلَه (رو 2:16؛ 16:23؛ 1كور 15:1...) الذي هو البشارة التي يكرز بها سائر الرسل ولأنه ليس إلاّ إنجيل واحد (غل 1:7). هو لا يعرف إلاّ المسيح والمسيح مصلوبًا (1كور 2:2؛ رج غل 6:14). ويبشّر بابن الله الذي من نسل داود حسب الجسد، الذي أقيم بالقدرة ابن الله حسب روح القداسة بالقيامة من بين الأموات (رو 1:3 ي؛ رج 1:9؛ 15:19؛ 1كور 9:12؛ 2كور 2:12؛ 9:13؛ 10:14؛ غل 1:7 ؛ 1تس 3:2؛ 2تس 1:8). إن الآب أرسل ابن الله ليخلّص بموته البشر جميعًا، وثنيّين ويهودًا، من عبوديّة الخطيئة والموت (رو 3:24 ي؛ 5:6-9؛ 6:22؛ 8:32؛ 14:15؛ 1كور 6:20؛ 7:22 ي؛ غل 4:3-5؛ 2كور 5:14 ي؛ 1تم 2:6). كلّهم خطئوا فحُرموا كلّهم مجد الله (رو 3:23). كلّهم كانوا موضوع غضب الله (رو 1:18؛ 2:5) بعد أن قادتهم خطيئة الإنسان الأوّل إلى الهلاك (رو 5:18). يشارك الإنسانُ في فداء المسيح بالإيمان الذي يمنحه غفران الخطايا (رج 1كور 15:17) والمصالحة مع الله (رو 3:25) والتبرير (رو 1:19؛ 9:30، 32؛ غل 2:16). أمّا شريعة موسى فعاجزة عن ذلك (رو 3:20؛ 9:31 ي؛ غل 2:16؛ 3:10 ي). إنّ الله بنعمته المجانيّة يحسب إيمان الإنسان برًّا (رو 4:3-5؛ غل3:6). وتبريرُ الخاطئ ليس حكم محكمة فقط. إنّه يتضمّن أيضاً غفران الخطايا وتحوّل الإنسان الداخلي بروح الله. لأنّ المؤمنين ينقَّون ويقدَّسون ويبرَّرون بالروح القدس (1كور 6:11؛ رج تي 2:3-7). لقد صاروا خليقة جديدة (غل 6:15؛ 2كور 5:17). حسب 1كور 6:11 وتي 3:5-7، يمنح العمادُ مغفرة الخطايا والتبرير والولادة الجديدة والحياة الجديدة في المسيح (رو 8:2؛ تي 3:5) أو في الروح (رو 7:6؛ 8:9). ففي المعموديّة يموت الإنسان مع المسيح ويقوم معه لحياة جديدة، لحياة في الروح وبالروح (رو 6:3-11). في المعموديّة يصبح المؤمن مشاركًا في حياة المسيح (المسيح يحيا فيه. غل 2:20) بالروح الذي هو مبدأ الحياة في المسيح. لهذا فكلّ المعمّدين يكونون معًا (من دون تمييز)، ومع المسيح كيانًا حيًّا وجسمًا واحدًا (1 كور 12:13؛ غل 3:28) هو الكنيسة التي رأسها المسيح (كو 1:18؛ أف 1:22 ي). وإن الوحدة بين المؤمنين تتقوّى بالإفخارستيّا (العشاء الرباني) التي توحّد المؤمن بجسد المسيح ودمه (1كور 10:16 ي)، لأنّ الخبز هو جسد المسيح والخمر هو دمه (1كور 11:23-27). لقد لعب بولس دورًا هامًّا في تنمية التعليم المسيحيّ ونموّ الكنيسة. كان أوّل من أوضح وحدّد (قبل الزمن) ألوهيّة يسوع المسيح ابن الله وشموليّة الفداء في المسيح. ومع إنّه لم يكن البادئ في حمل الإنجيل إلى الوثنيّين (رج أع 11:19 ي)، إلاّ أنّه صار رسول الأمم العظيم، فأسّس في بضع سنوات جماعات مسيحيّة انتشرت في كلّ العالم اليونانيّ والرومانيّ. فهمَ الطابع الموقت لشريعة موسى (غل 3:24؛ 4:3)، وفكرة العهد الجديد الذي نظّمه المسيح (1كور 11:25؛ 2كور 3:6-15؛ رج إر 31:31-34)، فاستنتج أن شريعة موسى قد تجاوزها الزمن. بهذه الطريقة جعل الجماعة الأولى تعي أنها جسم مميّز عن الجسم اليهوديّ. اهتمّ دومًا بوحدة الكنيسة جسد المسيح (أف 4:3-6؛ كو 3:15؛ 1كور 12:13) وبمساواة كلّ المؤمنين دون تمييز لعرق أو جنس أو طبقة اجتماعيّة. وبواسطة العلاقات المتواترة التي أقامها بين الجماعات، زرع في الكنيسة الشعور الحيّ بوحدتها.
1}