• بابل (برج): بابل (برج) اسم أعطي لمجدل (برج أو حصن) بدأ الناس (حسب تك 11 :1-9) يبنونه مع مدينة في سهل شنعار. ولكنهم لم يقدروا أن ينهوه لأنّ الربّ بلبل ألسنتهم. وهذه البلبلة هي أساس اسم بابل. المجدل هو على ما يبدو، برج هيكل (زقورات) بابل. أولاً : تأليف تك 11 :1-9. يُنسب هذا النصّ إلى التقليد اليهوهي بسبب استعمال اسم يهوه ( آ5-6، 8-9) والصور التشبيهيّة الانتروبومورفيّة ( آ5، 7، رج 3 :8) والسمات الإخباريّة والإيتيولوجيّة (البحث عن الأسباب) (رج آ9). الخبر متماسك ولكنّه ليس من لون واحد : فهو يتحدّث عن برج وعن مدينة. هدف البنَّائين هدفان : أن يصنعوا لهم اسمًا أي أن يخلَّدوا، وأن يتجنّبوا التشتّت. استعمل الله وسيلتين ليُفشل محاولتهم : بلبل الألسنة، شتّتهم. وإضافة إلى هذه الثنائيّة، نكتشف مقاطع تتكرّر : يذكر النصّ مرّتين مواد البناء ( آ3)، ونزول الربّ ( آ5، 7). وهناك من يقول إنّ تك 11 :1-9 يمزج خبرًا عن مدينة مع خبر عن برج. ولكن هذا الافتراض مستبعد. فقد يكون موضوع البرج ثانويًّا، لأنّ الخاتمة لن تعود تذكره (آ8). فمع موضوع بناء مدينة (تحدّثنا عنه في 4 :17)، نجد رغبة امتلاك اسم (سي 40 :19) ورغبة في البقاء معًا. وهذا ما نحصل عليه بوحدة اللغة (التي هي الشرط) وببناء المدينة (وهذه هي الوسيلة). ثانيًا : الطابع المحلي 1) جوُّ الخبر جوٌّ بابلي. تسمّى شنعار سهلاً (بقعة) والأمر هو هكذا. وتتحدّث الكتابات الأكاديّة عن الطين كمواد بناء. وقد دلّت الحفريّات أنّهم كانوا يستعملون للأبنية الضخمة قرميدات يبست في الشمس أو طُبخت في النار. فقلْبُ برج هيكل بابل مصنوع من قرميدات مجفّفة يحيط بها غلاف عرضه 15 م ومؤلّف من قرميدات مطبوخة ومجموعة بالحمّر (أو : بالتراب الأحمر ). والارتباط بين البرج والمدينة أمر معروف في بلاد الرافدين. فالحفريّات في مدن عديدة دلّت على آثار زقورات (زقرو : كان عاليًا) قرب هيكل يرتفع فوق تلّة مصطنعة. كانت تتألّف هذه الزقورات من ثلاث أو خمس أو سبع سطيحات متراكمة من الكبيرة إلى الصغيرة. وفوق أعلاها يقوم الهيكل. والزقورة التي ظلّت محفوظة هي زقورة أور التي بُنيت في أيام أورنامو وسولجي (حوالي 2000 ق.م.). كانت قاعدة زقورة أور 62م وتضمّنت ثلاث طبقات. كانت ثلاث سلالم ضخمة (بقي بعض من آثارها العظيمة) تقود إلى السطيحة الأولى وعلوّها 15م تقريبًا. وارتفعت زقورة بورشيفا 47م فوق السهل المجاور، وزقورة دوركوريفلزو 57م. لم يبقَ إلاّ آثارٌ قليلة من زقورة بابل التي سمّيت في الماضي : أي تمان ان كي : بيت أساس الأرض والسماء. ولكن بقيت لنا رسمتان. الأولى : رسمة في لوحة أيساجيل وقد نسخت سنة 229 ق.م. عن نسخة قديمة. الثانية : رسمة هيرودوتس (1 :18-19) الذي زار بابل سنة 460 ق.م. تختلف رسمة هيرودوتس قليلاً عن رسمة لوحة ايساجيل. استند العلماء إلى المعطيات الأركيولوجيّة والأدبيّة، فأعطوا زقورة بابل الشكل والأبعاد التالية : القاعدة مربّعة. قياس ضلعه : 5، 91م. ستّ سطيحات وكل واحدة أصغر من سابقتها. علوّ الأولى : 33م. والثانية : 18م. وكلّ من الأربع الباقية : 6م. أمّا السطيحة الأخيرة فكان يُتوّجُها هيكلٌ علوّه 15م وقد بُني بقرميد أزرق اللون... إنّ الزقورة التي رآها هيرودوتس في بابل، وكانت قد خسرت شيئًا من جمالها، لم يوفّرها أحشويروش الأوّل كليًا سنة 479 (كما يظنّ المؤرّخون سترابون وديودورس واريان). كانت عمل نبو فلاسر (625-605) ونبوخذنصر (605-562). لم يكتفِ هذان الملكان بترميم الزقورة التي كادت تسقط، بل كبّراها وجمّلاها. أقدم ذكر لزقورة بابل يرتبط بتدميرها سنة 689 على يد سنحاريب. ولكن جذورها تعود إلى السلالة البابليّة الأولى (1930-1530) إن لم يكن قبل هذا الوقت (شركليشاري الأكادي بنى هياكل في بابل حوالي سنة 2225). ثمّ إنّ تصوير برج بابل الذي يصل رأسه إلى السماء (آ4؛ تث 1 :28) تقابله كتابات غوديا ونبو فلاسر... التي تتحدّث عن زقورات بناها الملوك. 2) ان تك 11 :1-9 يستند الى معرفة مباشرة أو غير مباشرة لبابل. وهذا أيضا ما يثبته علمُ اشتقاق الاسم المصطنع (بلل بلبل، آ9)، لأنه لا يعقل أن يكون هذا الاشتقاق ألهم خبر تبلبل الألسنة أو سبّبه. بل ان تك 11 :1-9 يحتفظ بذكر زمن كانت بابل تعتبر فيه أقدم مدينة حين كانت مركز بلاد الرافدين الموحّدة في أيام حمورابي وخلفائه. وخبر برج بابل لم يولد في هذا الزمن السحيق. إن آ8 تفترض أنّ المدينة انحطّت، وهذا ما حدث بعد سنة 1530 (احتلها مورسيلي وسلبها). ثم إنّ غياب الوحدة السياسية في بلاد الرافدين يذكرنا بزمن سابق لانطلاقة أشورية في أيام تغلت فلاسر الأول (114-1074). اذًا، نحن نرى في تك 11 :1-9 تفسيرا إيتولوجيا ينطبق على تاريخ خلاص البشرية كلها. انطلق من واقع تاريخي في بلاد الرافدين (تفتيت سياسي وعرقي) مع التذكير بماض مجيد. ثالثًا : معنى تك 11 :1-9. أن يبدو بناءُ مدينة والحياة في عالم الحضر شرًا للكاتب الاسرائيلي القديم، فهذا ما يظهر من تك 4 :17 (ينسب أصل المدن الى قايين). فحتّى في زمن ارميا، كان هناك أناس يعارضون حياة الحضر والمدن، ولا يتخلّون إلا مكَرهين عن خيام أجدادهم (إر 35 :6-11؛ رج هو 2 :16 ي). ولكن بما أن بناء المدن لم يعد شرًا في ذلك الوقت، زاد عليه الكاتب بناء البرج. ومن الأكيد أن أهل بلاد الرافدين بنوا زقوراتهم لهدف ديني. لم تكن الزقورات مباني للموتى مثل أهرام مصر (يسمي سترابون زقورة مدفن بالوس)، ولا بالدرجة الأولى مباني رمزية تمثّل تلة الأرض والكون. فإسما زقورة أشور (أي كورا كيشارا : بيت جبل الكون) وزقورة بورشيفا (أي أور مي أمين ان كي : بيت موجّهي السماء والأرض السبعة وهو يلمح بذلك الى الكواكب)، يدلاّن مع ذلك على معنى كوني. ولكن الهدف الأساسي للزقورة هو إقامة اتصال مع الاله : أو أننا نقترب منه فنقدّم له عطايا البشر على مذبح يرتفع حتى السماء. أو أننا ندعوه لينزل الى البشر فنهيِّئ له بيتا عاليا يكون له موطئ قدم بعيدا فوق الأرض. ومن هذا البيت يستطيع أن ينزل عبر السلّم الى الهيكل العظيم وسط البشر. هذه النظرة التي يعبّر عنها اسم زقورة لارسا (أي دور ان كي : بيت رباط بين السماء والأرض) نجدها في حلم يعقوب في بيت ايل (تك 28 :11-19) الذي فيه يشكّل اسم "باب السماء" توازيا مدهشا مع اسم بابل : بابا ايلي : باب الله أو (في النصوص البابلية الجديدة) باب ايلاني (من هنا بابلونا)، باب الآلهة. ولكن كاتب تك 11 :1-9 يرى الأمور من زاوية أخرى. فرغم هدف المهندسين التقويّ، تتميّز كتاباتهم بلغة التكبّر، لأنها تتحدّث عن بناء يتأسّس في الجحيم فترتجف منه السماوات. وفي نظر إش 2 :15 أيضا تُجسّدُ الأبراجُ العالية والحصون، الكبرياء البشرية. لسنا أمام محاولة للصعود الى السماء كما حاول التيتان أن يفعلوا في الميتولوجيا اليونانية، ولكن الكاتب أراد أن يعلمنا أن الأنسان يتطلّع أكثر مما يجب الى فوق، وأنه يعبّر بأبنيته المتشامخة عن رغبته في أن يتجاوز إمكانية الانسان. واهتم الكاتب بالايتيولوجيات، فرأى في اختلاف الألسن وسيلة اختارها الله ليحطّم وحدة الجنس البشري الذي اعتبر نفسه قويا، وهكذا يضع حداً لطموح قد يصبح قاتلاً. رابعًا : مكانة تك 11 :1-9 في تاريخ البدايات. لا يدخل خبر برج بابل بتناسق في تطوّر التاريخ القديم، ولا يُعتبر مرحلة جديدة من مراحله. إنه يصور الانتقال من حياة البدو الى حياة الحضر. في هذه المناسبة، أراد الناس أن يؤمّنوا وحدتهم الأولى بتأسيس مدينة. ولكن هذه المدينة الأولى قد أسّسها قايين (حسب تك 4 :17). ثم ان تك 10 :1 يفترض وجود بابل. بالاضافة الى ذلك يعتبر ف 10 توزّع البشرية شعوبًا وألسنة، كنتيجة تطوّر الانساب والسلاسل البشرية. إنه تطور ضروري. أما كاتب تك 11 :1-9 فربط الحدث ذاته بتدخّل خاص من الله الذي لم يُرد أن يعاقب البشر بسبب خطيئة خاصة، بل أن يتدبّر أمورهم أمام شرّ يهدّدهم. واستعمل مواد مختلفة. ولكن وُضع الخبرُ في اطار تاريخ البدايات بسبب مضمونه الخلاصي. إنه يدل على خطوة في الطريق نحو تفكّك سعادة البدايات وازدياد في الحاجة الى الخلاص. كل هذا يهيّئه واقع، وهو أن الله لا يتخلّى نهائيا عن البشرية بحيث إنه حين يأتي زمن يمكنه فيه اختيار الرجل الذي يجمع من جديد، الشعوب التي تشتّتت وتباغضت. 1}
أعلى