من هو النبي الصادق؟
كثيرون من البشر مخلصون في حمل الحق، لكن هذا لا ينفي أن هناك عدداً من البشر أساءوا استخدام الحق، فلبسوا ثيابه واستخدموه لتحقيق أغراض خاصة، مثل مكسب مادي أو اجتماعي، وأضلّوا خلفهم الكثيرين, ترى كيف نتعرَّف على هؤلاء ونكتشفهم؟
يعلّمنا المسيح عن كيفية التفرقة بين حامل الحق ومزيِّف الحق، أو كيف نكتشف كذب المعلّم,
1 - نكتشف كذب المعلم من كذب رسالته: قال المسيح (له المجد): احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة (مت 7: 15), وأيضاً: كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يارب يارب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرِّح لهم إني لم أعرفكم قط, اذهبوا عني يا فاعلي الإثم (مت 7: 22 ، 23),
ويتضح كذب الرسالة عندما نطابقها بكلمة الله الصادقة التي أوحى بها منذ البدء لأنبيائه، في تسلسل واضح وبطريق تصاعدي, فالمعلم الذي يكرر رسالة جاءت من قبل ليس بالمعلم لكنه مقلِّد, لأنه لم يأت بجديد في الطريق التصاعدي لوحي الله, فقد بدأ الوحي بالوحي الشفهي من آدم إلى موسى، ثم بالوحي المكتوب من موسى إلى المسيح، ثم بالوحي المتجسِّد في المسيح: الله بعد ما كلَّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين (عب 1: 1), فالوحي تدرَّج من وحي شفهي، إلى كتابي، إلى متجسِّد, والأحكام تدرَّجت من عين بعين وسن بسن، إلى تحب قريبك كنفسك، ثم إلى أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم,
ولقد حدث كثيراً في تاريخ شعب الرب أن ظهر أنبياء يقطعون هذا التسلسل الإلهي والتصاعدي، ويرتدُّون إلى تعاليم الخَلَف، ويرجعون بالإنسان إلى دائرة أو مرحلة تخطاها من زمن بعيد في علاقته بالله, وقد قال الله عن هؤلاء: لم أرسل الأنبياء بل هو جَرَوْا, لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا, ولو وقفوا في مجلسي لأخبروا شعبي بكلامي وردُّوهم عن طريقهم الرّدئ وعن شر أعمالهم, ألعلي إله من قريب يقول الرب ولست إلهاً من بعيد ,, قد سمعتُ ما قالته الأنبياء الذين تنبأوا باسمي بالكذب قائلين: حلمت حلمت, حتى متى يوجد في قلب الأنبياء المتنبّئين بالكذب، بل هم أنبياءُ خداعِ قلبهم ,, النبي الذي معه حلم فليقصَّ حلماً، والذي معه كلمتي فليتكلم بكلمتي بالحق, ما للتبن مع الحنطة يقول الرب؟ أليست هكذا كلمتي كنارٍ يقول الرب وكمطرقةٍ تحطم الصخر ,, وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم (ارميا 23: 21-32),
ويقول بطرس الرسول: نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس، الخلاص الذي فتَّش وبحث عنه أنبياء, الذين تنبَّأوا عن النعمة التي لأجلكم, باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها (1بط 1: 9-11), وأيضاً عندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها، كما إلى سراجٍ منيرٍ في موضعٍ مظلم (2بط 1: 19),
فمقياس صحة التعليم هو الكلمة المقدسة الموحى بها في العهدين القديم والجديد, وإذا أردت أن تمتحن صدق معلِّمٍ من المعلمين، فامتحن ما يقوله مع الكلمة المقدسة: هل يسير في الطريق الذي رسمه الله للبشر؟ هل تتطابق كلماته مع الوحي المقدس؟ هل يتوافق مع النغم الإلهي المتصاعد، من كلمة شفهية إلى مكتوبة إلى متجسد؟ هذا هو السؤال وهذا هو المحك,
2 - نكتشف كذب المعلم أو النبي من افتقاره للمعجزة الحقيقية: فكل معلم يأتي بكلام الله، يؤيده الله بمعجزة حقيقية شكلًا وموضوعاً, يقول المسيح: كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يارب يارب، أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرّح لهم إني لم أعرفكم قط , وهؤلاء أنبياء صنعوا معجزات لكنها غير حقيقية, فقد قاموا بالمعجزة كشكل خارجي، أو بمعنى آخر استدعوا المعجزة من خارجهم كالحُواة, لكن معجزة النبي الحقيقي هي التي تنبع من داخله، أي يكون هو - كشخصٍ - معجزة في ذاته,
بعد أن أجرى المسيح معجزة إشباع الخمسة آلاف فتش الناس عليه ولم يجدوه، فركبوا مراكب إلى كفرناحوم ووجدوه في عبر البحر، فقالوا له: يا معلم متى صرت هنا؟ فواجههم بالقول: الحق الحق أقول لكم، أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات، بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم, اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي, قالوا له: ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟ أجاب: هذا هو عمل الله, أن تؤمنوا بالذي هو أرسله , فقالوا له: أية آية تصنع لنرى ونؤمن بك؟ ماذا تعمل؟ آباؤنا أكلوا المن في البرية ,, قال لهم: الحق الحق أقول لكم ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء، بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء , فقالوا له: يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز, فقال: أنا هو خبز الحياة, من يقبل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً ,, (يوحنا 6: 25-40),
فالمعجزة هنا ليست من عمل يدي يسوع، لكنه هو في ذاته المعجزة، وكل معجزة قام بها نابعة من داخله وتشير إليه, فعندما يفتح عيني الأعمى فهو نور العالم, وعندما يقيم الموتى فهو القيامة والحياة,
لكن عندما يأتي نبي أو معلم بمعجزة لا يعيشها ولا تعبِّر عنه، فهذه مأساة وخدعة للبشر, ويقول لهم الله: لم أعرفكم قط! اذهبوا عني يا فاعلي الإثم , يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره، قد ابتدأ الرب بالتكلُّم به ثم تثبَّت لنا من الذين سمعوا، شاهداً الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة، ومواهب الروح القدس حسب إرادته (عب 2: 3 ، 4),
3 - يقول المسيح: احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان , وبمحاولة كشف أصل النبي نستطيع أن نكتشفه, فمنذ أن اختار الله إبراهيم وضع النبوَّة في نسله: إسحق ويعقوب والأسباط, ولذلك استمرت شجرة النبوَّة تطرح من داخل هذه الأسرة, ولذلك قال موسى لشعبه: يُقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي, له تسمعون (تث 18: 15), ويقول الرب: أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به (تث 18: 18), وهذا التحديد لا يقلل من عظمة من قاموا بالإصلاح الإجتماعي ونادوا بالعدالة الإجتماعية والسلام والحب بين البشر, فغاندي مثلًا فعل في الهند، ما لم يفعله كثير من الأنبياء, وبمجئ المسيح اكتمل الوحي المكتوب، وفيه جاء الوحي المتجسِّد، وانكشفت كل الأسرار والإعلانات، بالفداء والقيامة,
4 - وإن كان أصل النبي شيء يُخْتَلَف عنه، إلا أن هناك علامةً أخرى للنبي، وهي ثمر الرسالة، إذ يقول المسيح: من ثمارهم تعرفونهم, هل يجتنون من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً؟ (مت 7: 16-20), وثمر أي نبوة يتركز في أمرين: الأول تعليم جديد يقدِّم أبعاداً جديدة عن الله لم تكن معروفة من قبل، والثاني نوعية الأتباع الذين اجتذبتهم هذه النبوة,
فالنبي الحقيقي معه جديد عن جوانب شخص الله السرمدي، مع إظهار هذه الجوانب للإنسان: إظهار الله في عدالته ومحبته، ومعرفة الله بأكثر قرب ولمعان, فالله، كما قدَّمه موسى، كان أكثر وضوحاً مما قدمه إبراهيم, وكان إيليا أوضح من موسى, ثم جاء إشعياء ليعلن جانب الألم والأحاسيس والمشاعر في الله، فكان أكثر وضوحاً, ثم جاء المسيح إعلاناً كاملًا نهائياً, لذلك فمقياس أي نبوة هو مقدار الجديد الذي تقدمه عن الله في علاقته بالإنسان,
أما الثمر الثاني فهو نوعية التابعين, إذا أردت أن تدرك الفرق بين النبي الآتي من الله ومن يدَّعي النبوة، فانظر إلى التابعين، فالتابعون هم ثمرة النبوة: فالرسالة الحقيقية هي التي تدعو إلى اتساع الأفق وإلى الثقافة والتحضُّر ,, تدعو إلى الحب والأمانة, الرسالة الحقيقية هي التي تدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة، فالمرأة لها مكانتها كإنسان عادي, قل لي ما هي مكانة المرأة في أي مجتمع، أقلْ لك مدى تحضُّره أو تخلّفه, إن الرسالة التي تفصل بين الدين والحضارة، بين ما هو روحي وما هو زمني، بين الطهارة الخارجية وطهارة الفكر، هي رسالة إنسانية وليست إلهية, قال المسيح (له المجد): من ثمارهم تعرفونهم أي من مستوى الأتباع تعرف المعلم، ومن مستوى الشعب تعرف القائد، لأنهم ثمرة يديه, فصانع الحضارة هو الدين, وبالرغم من أن بعض البشر رفضوا الدين، إلا أن القِيَم التي غُرست فيهم من آلاف السنين لا زالت تترك آثارها عليهم, فهي سرُّ تحضُّرهم ووجودهم كبشرٍ أسوياء,
5 - نستطيع أن نكتشف كذب النبي أيضاً من انفصاله عن كلمته: فقد قال المسيح (له المجد): من عمل وعلَّم فهذا يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات (مت 5: 19),
فكلمة النبي أو رسالته يجب أن ترتبط بحياته دون انفصام, كان الأنبياء في القديم يعبِّرون عن رسائلهم بحياتهم وبأجسادهم, فمثلًا كانت رسالة إرميا أن يتحدث عن السبي الذي سيذهبالشعب إليه، فأتى بنير خشبي وضعه على كتفيه, وعندما حطَّم الملك النير الخشبي وضع نيراً من حديد وسار به بين الناس، يتحدث عن الشعب الذي سيحمل النير في السبي, وإيليا عاش منتعشاً في الصحراء، ليعبِّر عن رسالته, وهوشع الكاهن تزوج من امرأة زانيةٍ كما أمره الرب، ليقدِّم صورة حيَّة لمحبَّة الرب لشعبه رغم زناه، وكانت حياة هوشع رسالته, لكن إذا جاء نبي يتحدث عن رسالة هو لا يعيشها، فهو منفصل تماماً عن كلمته, فالنبي الذي يتحدث عن العدالة والنقاء والأمانة، عليه أن يعيش هذه الصفات, والمسيح لم يعلِّم تعليماً لم يعشه هو أولًا,
6 - ثم علامة أخرى، هي مدى تحدي رسالته لعوامل الهدم:
فالرسالة التي تقف شامخة رغم كل محاولات الهدم، رسالة صادقة, الرسالة التي لا تخشى الانتقاد والتقييم المستمر في العهود المختلفة هي رسالة مؤسسة على الصخر, فالرسالة الحقيقية لا تحتاج إلى حماية بشر في مواجهة النقد والتقييم, ولرسالة المسيح 2000 عام، تعرضت فيها وما زالت لكل معاول الهدم والانتقاد, حتى في البلاد المسيحية، نجد الإذاعة والتليفزيون والصحافة تترك المجال بكل حرية لمن يريد أن ينتقد المسيحية أو الكتاب المقدس, لكن يبقى في النهاية التعليم الصحيح، فلا يصح إلا الصحيح، كما يقولون, يقول المسيح: كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبِّهه برجلٍ عاقلٍ بنى بيته على الصخر, فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبَّت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط، لأنه كان مؤسساً على الصخر, وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها يُشبَّه برجلٍ جاهلٍ بنى بيته على الرمل, فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط، وكان سقوطه عظيماً (مت 7: 24-27),
إن كنت تريد أن تكتشف صدق رسالة أو نبوة، اتركها للناس ينتقدونها ويفسرونها ويحللونها، فإن صمدت للنقد واستطاعت أن تقاوم، تكون رسالة صادقة من الله, لا تحاول أن تحميها برجال أو مال أو سلاح، فالرسالة الصادقة قوتها في الحق الذي تحتويه,
7 - أخيراً يمكن أن نكتشف صدق النبي من نوعية السلطان الذي يتمتع به, لقد بُهتت الجموع من تعليم المسيح لأنه كان يتحدث بسلطان وليس كالكتبة, والسلطان هنا لم يكن سلطان قوة يُرغم بها الناس على سماعه، ولا سلطان نفوذ أو كهنوت، فقد كان المسيح إنساناً بسيطاً, لم يكن من الأسرة الكهنوتية، ولم يكن زعيماً يحمل سلاحاً، لكنه كان يحمل سلطان الكلمة التي يتفوَّه بها، فهو كلمة الله, يقول المسيح: خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني (يو 10: 27), إنه يعرفنا ولذلك له سلطان علينا,
وقف أحد المرنمين العظماء في حفل ضخم ورنم: الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء, في مراعٍ خضرٍ يربضني، إلى مياه الراحة يوردني يردُّّ نفسي, يهديني إلى سبل البر,, أيضاً إذا سِرْتُ في وادي ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معي, عصاك وعكازك هما يعزيانني (مز 23) فاستمتع الناس بالترنيم جداً وصفقوا له, ثم وقف بعده مرنم آخر ورنم نفس المزمور، فبكى الناس عند سماعه, قال أحد الجالسين: الأول يعرف الترنيمة جيداً، أما الثاني فيعرف الراعي , والنبي الحقيقي هو الذي يعرف الله,