1 - شبهات شيطانية حول إنجيل متى
قال المعترض الغير مؤمن: كُتب إنجيل متى بالعبرانية، وفُقد بسبب تحريف الفرق المسيحية, والموجود الآن ترجمته، ولا نعلم اسم مترجمه ,
وللرد نقول بنعمة الله : كان وحي إنجيل متى باللغة اليونانية:
(1) لأنها كانت اللغة المتداولة في عصر المسيح ورسله, ولما كانت غاية الله إعلان مشيئته وإرادته، كان لا يُعقل أن يوحى بلغة غير متداولة لئلا تضيع الفائدة المقصودة,
(2) كان متى عشاراً قبل دعوته للرسالة، فكان عارفاً باليونانية، لأنه لا يمكن أن يؤدي واجبات وظيفته بدون معرفتها,
(3) كتب جميع الرسل الأناجيل والرسائل باللغة اليونانية للمسيحيين، سواء كانوا من اليهود أو الأمم، وعلى هذا القياس كُتب إنجيل متى باللغة اليونانية,
(4) يوجد توافق في كثير من عباراته وعبارات باقي الأناجيل, ولو جاء بغير هذه اللغة لما وُجد هذا التوافق,
والأغلب أن فكرة كتابة متى لإنجيله باللغة العبرية جاءت نتيجة ما اقتبسه المؤرخ يوسابيوس عن بابياس أسقف هيرابوليس سنة 116م قال: كتب متى إنجيله باللغة العبرية , غير أن بابياس لم يقل إنه رأى بعينيه هذا الإنجيل باللغة العبرية، بل: كان إنجيل متى متداولاً بين الناس باللغة اليونانية قبل عصره , فقولهم إنه كُتب باللغة العبرية مجرد ظن وتخمين، بخلاف البيانات الدالة على أنه كُتب باللغة اليونانية, ومن تتبَّع العبارات التي استشهد بها مِنْ كتب العهد القديم يرى أنها مأخوذة من الترجمة السبعينية، أي من اللغة اليونانية, فلو كان كُتب باللغة العبرية لَجاَءَت الآيات الواردة فيه من التوراة العبرية, ولو سلّمنا جدلاً أن هذا الإنجيل كُتب باللغة العبرية لقلنا إن الرسول كتبه باللغة اليونانية أيضاً، فكان موجوداً باللغتين اليونانية والعبرية معاً, والمؤرخ يوسيفوس كتب حروف اليهود باللغة العبرية واللغة اليونانية معاً، لتعم الفائدة, وعلى كل حال فقد كان هذا الإنجيل متداولاً بين المسيحيين في القرن الأول بعد المسيح,
مع هذا نسأل: ما هو العيب في أن يكون إنجيل متى قد كُتب بالعبرية ثم تُرجم لليونانية؟ إن الكتب المقدسة الموحى بها من الله لا تضيع معانيها وطلاوتها إذا تُرجمت إلى اللغات الأخرى,
وقال إيريناوس في سنة 178م إن متى نشر أيضاً إنجيلاً بين العبرانيين بلغتهم، وهذه العبارة تفيد أنه زيادة على إنجيله باللغة اليونانية، نشر هذا الإنجيل بالعبري لإفادة العبرانيين,
وقال أوريجانوس في سنة 230م: بلغني من التقاليد المأثورة عن الأربعة الأناجيل التي تتمسك بها كل الكنائس تحت السماء، أن الإنجيل الأول وحيٌ لمتّى الذي كان عشاراً وبعد ذلك صار رسولاً ليسوع المسيح، الذي نشره للمؤمنين في اليهودية بأحرف عبرية , فهذه الشهادة تدل على أن إنجيله كان باللغة اليونانية لإفادة جميع المسيحيين، ثم نشره بالعبري لإفادة اليهود,
فينتج مما تقدم أن إنجيل متى كُتب باللغة اليونانية، على أنه لا مانع أن يكون قد كُتب بالعبرية، ثم تُرجم لليونانية، فهذا لا يضرّ الوحي بشيء,
وقال المعترض الغير مؤمن: لا يوجد سندٌ متَّصل لإنجيل متى ,
وللرد نقول بنعمة الله : أشار برنابا (الذي كان رفيقاً لبولس) إلى إنجيل متى في رسالته سبع مرات، واستشهد به أغناطيوس سنة 107م في رسائله سبع مرات، فذكر حبل مريم العجيب، وظهور النجم الذي أعلن تجسُّد المسيح, وكان إغناطيوس معاصراً للرسل، وعاش بعد يوحنا الرسول نحو سبع سنين، فشهادته من أقوى البيانات على صحّة إنجيل متى, واستشهد بوليكاربوس (تلميذ يوحنا الرسول) بهذا الإنجيل في رسالته خمس مرات، وكان هذا الإنجيل منتشراً في زمن بابياس (أسقف هيرابوليس) الذي شاهد يوحنا الرسول, كما شهد كثير من العلماء المسيحيين الذين نبغوا في القرن الأول بأن هذا الإنجيل هو إنجيل متى، واستشهدوا بأقواله الإلهية، وسلَّمه السلف إلى الخلف,
وفي القرن الثاني ألّف تتيانوس كتاب اتفاق الأناجيل الأربعة وتكلم عليه هيجسيبوس، وهو من العلماء الذين نبغوا في سنة 173م، وكتب تاريخاً عن الكنيسة ذكر فيه ما فعله هيرودس حسب ما ورد في إنجيل متى، وكثيراً ما استشهد به جستن الشهيد الذي نبغ في سنة 140م، وذكر في مؤلفاته الآيات التي استشهد بها متى من نبوات إشعياء وميخا وإرميا, وقِسْ على ذلك مؤلفات إيريناوس وأثيناغورس وثاوفيلس الأنطاكي وأكليمندس الإسكندري الذي نبغ في سنة 164م وغيرهم,
وفي القرن الثالث تكلم عليه ترتليان وأمونيوس مؤلف اتفاق البشيرين ويوليوس وأوريجانوس واستشهدوا بأقواله وغيرهم,
وفي القرن الرابع اشتبه فستوس في نسبة هذا الإنجيل بسبب القول: وفيما يسوع مجتاز من هناك رأى إنساناً عند مكان الجباية اسمه متى، فقال له: اتبعني, فقام وتبعه (متى 9: 9), فقال فستوس: كان يجب أن يكون الكلام بصيغة المتكلم، ونسي أن هذه الطريقة كانت جارية عند القدماء, فموسى كان يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب، وكذا المسيح ورسله، وزينوفون وقيصر ويوسيفوس في مؤلفاتهم، ولم يشكّ أحدٌ في أن هذه الكتب هي كتبهم, وفي القرن الرابع زاد هذا الانجيل انتشاراً في أنحاء الدنيا,
قال المعترض الغير مؤمن: قال نورتون إن الأصحاحين الأولين من إنجيل متى ليسا منه ,
وللرد نقول بنعمة الله : أنكر الذين لا يؤمنون أن المسيح وُلد من مريم العذراء بطريقة معجزية هذين الأصحاحين، لأنهما يشتملان على نسب المسيح حسب الجسد، واتخاذه الجسد من مريم العذراء بطريقة معجزية, والقرآن يقول إن المسيح حُبل به من الروح القدس بدون واسطة بشرية، فمن أنكر أو كذَّب متى 1 و2 يكذّب القرآن أيضاً,
وإليك الأدلة المؤيِّدة لذلك:
(1) يدل أول أصحاح 3 على أنه مرتبط بكلام سابق, فهو ليس بدء كلام بل هو متصل بكلام يسبقه, وزد على هذا أن متى استشهد في أصحاحي 1 و2 بالنبوات، وهي طريقته المعهودة, فإذا قلنا إن إنجيله خالٍ من نسب المسيح كان ذلك نقصاً، لأنه كتب إنجيله للمسيحيين من أصل يهودي، وكلام الله منزّه عن النقص,
(2) جاء متى 1 و2 في جميع النسخ القديمة بدون استثناء، مثل نسخة الفاتيكان ونسخة كامبردج ونسخة كودكس، وتاريخ هذه النسخ هو قبل الجيل الخامس، فهي منذ 1500 سنة, وكذلك نسخة الباشيتو، وكذلك النسخة الايطالية القديمة والنسخة القبطية، وغيرها من النسخ القديمة,
(3) تكلم علماء الدين الأقدمون على هذين الأصحاحين، فتكلم أكليمندس الإسكندري سنة 194م عن نسب المسيح المذكور في متى 1 ولوقا 3 , وقال هيجسيبوس سنة 173 عبارة ذكرها يوسابيوس إن الإمبراطور دوميتيان فتش عن ذرية داود، فأُحضر أمامه اثنان منهم, قال المؤرخ: لأنه خاف من مجىء المسيح كما جزع وخاف هيرودس قبله , فأشار بهذا الكلام إلى متى 2 الذي يقول إن هيرودس جزع وفزع من المسيح, وذكر يوستين الشهيد (سنة 140) كل الحوادث المذكورة في هذين الأصحاحين، بل ذكر ذات عبارات البشير, وقال إغناطيوس (سنة 107) في رسالته إلى أهل أفسس: وُلد المسيح بمعجزة من مريم العذراء , وذكر ظهور النجم الذي دلَّ على مولده, ولايخفى أن إغناطيوس تُوفي بعد البشير يوحنا بست سنين، فشهادته لها منزلة رفيعة عند العلماء, وهناك شهادات إيريناوس وباقي الآباء الذين أتوا بعد ذلك، والجميع مسلّمون بها, وهناك شهادات أعداء الديانة المسيحية، ومنهم الإمبراطور يوليان الذي كان في منتصف القرن الرابع، وبوقيري الذي كان في القرن الثالث, ومع أن مؤلفاتهم فُقدت، إلا أن أئمة الدين المسيحي ذكروا اعتراضاتهم في أثناء الرد عليها، وأشار جميعهم إلى ميلاد المسيح كما هو مذكور في متى 1 و2,
وقد أقام علماء الدين المسيحي البراهين على صحة كل حادثة ذُكرت في هذين الأصحاحين,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 1: 19 أن يوسف أراد تخلية مريم سراً بسبب حبَلها، حتى كلَّمه الملاك في متى 1: 20 مع أن الملاك كان قد أعلن لمريم قبل ذلك أنها ستحبل (لوقا 1: 26 و27), فيكون أن هذين النصَّين متناقضان ,
وللرد نقول بنعمة الله : النصان صحيحان, ظهر الملاك لمريم، ثم ظهر ليوسف, ولم تكن مريم قد أخبرت يوسف بإعلان الملاك لها، لأنها كانت تعلم أن كلماتها وحدها لن تقنع يوسف بأن حَبَلها هو من الروح القدس, ثم أنها كانت تعرف أنها بريئة، وأن الله قد شرَّفها أن تكون أم المخلّص, فلتنتظر حتى تعلن السماء براءتها ليوسف ولغيره,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 1: 22 و23 وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا , والمراد بالنبي هو إشعياء عند علمائهم، فانه ورد في إشعياء 7: 14 يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل ,
وهذا غلط بوجوه, الأول: كلمة العذراء التي ترجمها متَّى ومترجم كتاب إشعياء بالعذراء، هي عَلْمَه مؤنث علم، والهاء فيه للتأنيث, ومعناه عند علماء اليهود المرأة الشابة، سواء كانت عذراء أو كانت غير عذراء , وجاء هذا اللفظ في الأمثال 30 ومعناه المرأة الشابة التي تزوجت , وفُسر هذا اللفظ في كلام إشعياء بالمرأة الشابة، في الترجمات اليونانية الثلاث في ترجمة سنة 129 وسنة 175 وسنة 200, وكلام متى ظاهر, وقال فري في بيان اللغات العبرية إنه بمعنى العذراء والمرأة الشابة, وحَمْله على العذراء خاصة يحتاج إلى دليل,
وللرد نقول بنعمة الله : لما كان اليهود غير مؤمنين بأن يسوع هو المسيح كلمة الله الأزلي، حاولوا تفسير النبوات لكي لا تصدق عليه رغم وضوحها,
على أن مثل هذه الأدلة لا يصح أن يُخاطب بها إلا اليهودي، أو الكافر، فكلاهما لا يعترف بولادة المسيح من عذراء، بخلاف المسلمين الذين يؤمنون أن الله فضّل مريم على نساء العالمين، فورد في آل عمران 3: 42 وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهّرك، واصطفاك على نساء العالمين وورد في التحريم 66: 12 ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا، وصدقت بكلمات ربها وكتبه، وكانت من القانتين وورد في المؤمنين 23: 50 وجعلنا ابن مريم وأمه آية , والقرآن ذاته شنّع في اليهود لافترائهم على مريم، فقال في النساء 4: 156 وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً , والدليل على أنها كانت عذراء ما ورد في مريم 19: 20 قالت (أي للملاك) أنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر، ولم أك بغيّا؟ وفي عدد 21 قال كذلك قال ربك هو عليّ هين ولنجعله آية للناس ورحمة منّا، وكان أمراً مقضيّاً , فالقرآن شاهد بأن مريم حبلت بالمسيح من الروح القدس، وأن الله فضّلها على نساء العالمين، وأنها حبلت بالمسيح وهي عذراء بكر لم تعرف رجلاً, وكان الواجب على المعترض أن لا يتمسك بالاعتراضات الفارغة التي يستند عليها أعداء المسيح ومريم,
قال المعترض الغير مؤمن: ما سمى أحد المسيح بعمانوئيل، لا أبوه ولا أمه، بل سمياه يسوع, وكان الملاك قد قال لأبيه في الرؤيا: وتدعو اسمه يسوع كما في إنجيل متى، وقال جبريل لأمه: ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع كما في إنجيل لوقا (وهنا حذف المعترض باقي كلام الملاك، وهو قوله: هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعى وقوله الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يُدعى ابن الله ), ولم يدّع المسيح في أي وقت أن اسمه عمانوئيل ,
وللرد نقول بنعمة الله : معنى كلمة عمانوئيل الله معنا , و قال متى البشير، بوحي الروح القدس، إن المراد بها هو المسيح، وهي لاشك تدل عليه دلالة المطابقة، فان اللفظ موافق للمعنى، فان الكلمة الأزلي اتخذ طبيعتنا وصار إنساناً, في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله ,,, والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيدٍ من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً (يوحنا1: 1 و14), قال الرسول (1تيموثاوس 3: 16): عظيم هو سرّ التقوى: الله ظهر في الجسد , وقد صرّح المسيح بذلك في جميع تعاليمه, قال في يوحنا 5: 17-24 إنه معادل لله في أعماله وقوته وقدرته وذاته، وأوضح أزليته في يوحنا 8: 25 ، وقال إن الآب فيه وهو في الآب (يوحنا 10: 38), فالكلمة الأزلي، المسيح، اتخذ الجسد, وبعبارة أخرى إنه عمانوئيل أي الله معنا ,
وقد تنبأ النبي إشعياء بهذه النبوّة قبل مولد المسيح بنحو 740 سنة, وتوجدنبوات تختص بالمسيح حرفياً، كما توجد حوادث كثيرة تنبىء عن المسيح وعمله، ورُمز إلى المسيح بأشخاص، فرُمز إليه بداود ملك يهوذا، ولذا تكلم عنه الأنبياء بعد موته بمدة طويلة (هوشع 3: 5 وإرميا 30: 9 وحزقيال 34: 23 و24 و37: 25), فلما سرد متى تاريخ المسيح ذكر تتميم النبوات التي وردت عنه، فذكر أولاً نسَبَه الشرعي من داود وإبراهيم حسب الكتب المقدسة، ثم ذكر أنه كان لابد أن يولد من عذراء حسب نبوة إشعياء، وأنه كان لابد أن يولد في بيت لحم اليهودية حسب نبوة ميخا، ثم استشهد بقوله إن راحيل تبكي على أولادها في الرامة، حسب نبوة إرميا، وإنه كان لابد أن يُدعى من مصر حسب نبوة هوشع، ويسكن في الناصرة ليتم ما قيل إنه سيُدعى ناصرياً, وكانت يد الله ظاهرة بنوع جلي في جميع هذه الحوادث، تحقيقاً لنبوات الأنبياء, ولقد أصاب البشير في تطبيقها على المسيح، فإن الروح القدس الذي أوحى بهذه النبوات في العهد القديم، أوحى أيضاً بتفسيرها في العهد الجديد، فكان الكلام مبنياً على الوحي الإلهي,
قال المعترض الغير مؤمن: من قارن متى 2 بلوقا 2 وجد اختلافاً: يُعلم من قول متى أن أبوي المسيح بعد ولادته كانا يقيمان في بيت لحم، ويُفهم أن هذه الإقامة كانت لمدة تقرب من سنتين، ثم ذهبا إلى مصر وأقاما فيها إلى موت هيرودس، ثم ذهبا وأقاما في الناصرة, ويُعلم من كلام لوقا أن أبوي المسيح ذهبا إلى أورشليم بعد تمام مدة نفاس مريم، ولما قدَّما الذبيحة رجعا إلي الناصرة وأقاما فيها، وكانا يذهبان منها إلى أورشليم في أيام العيد, ولما كان عمر المسيح 12 سنة أقام ثلاثة أيام في أورشليم بدون إطلاع أبويه, وعليه فلا سبيل لمجيء المجوس إلى بيت لحم, ولو أنهم جاءوا فسيجيئون للناصرة, وكذا لا سبيل إلى سفر أبويه إلى مصر، لأن يوسف لم يسافر من أرض اليهودية إلى مصر ولا إلى غيرها ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) التناقض هو اختلاف القضيتين بالإيجاب والسلب، بحيث يقتضي صدق إحداهما كذب الآخرى، كقولنا زيد إنسان - زيد ليس بإنسان , أما في ما ذُكر فلا اختلاف ولا تناقض بين قول البشيرين متى ولوقا, فعدم ذِكْر لوقا سفر يوسف إلى مصر لا يدل على أن يوسف لم يسافر إليها, غاية الأمر أنه اقتصر على ذكر شيء دون آخر, ويتحقق التناقض إذا قال أحد البشيرين إن المسيح سافر إلى مصر وقال الآخر إنه لم يسافر إليها, ولو اتفق البشيران في الكليات والجزئيات لاتّهمهما الملحدون بالتواطؤ، ولكن تنوُّع طريقة كل واحد في التعبير عن الحوادث التي شاهدها تدل على صدقهم,
وترتيب حوادث ولادة المسيح (أ) سفر يوسف ومريم من الناصرة إلى بيت لحم (ب) ولادة الطفل (ج) تقديمه في الهيكل (د) زيارة المجوس (ه-) الهروب إلى مصر (و) عودتهم إلى الناصرة وإقامتهم فيها,
(2) لو كان الكاتب واحداً وحصل منه اختلاف في سرد القصة بتقديم أو تأخير أو حذف أو زيادة، لكان يُؤاخذ على عمله، ويُرمى كتابه بالتحريف والاضطراب في الفكر, وكتاب الله منزّه عن ذلك, أما ونحن نقرأ ذات القصة يرويها متى ولوقا، فإننا نتوقع أن نجدها كما جاءت في الإنجيل, وهذا دليل صدقها,
فمن طالع متى 2 ولوقا 2 رأى الفحوى واحداً, فإذا رأى اثنان من الأنبياء شيئاً واحداً، لابد أن يحدث تنوّع في طرق التعبير, كما أنه إذا ذكر مؤرخان أو أكثر بعض الوقائع أو الحوادث حصل تنوع من نقص أو زيادة، أو تقديم أو تأخير أو إسهاب أو إيجاز, والذي نعتقده أن الله ألهم الرسل تدوين أقوال المسيح وأعماله وعصمهم عن الخطأ، وكان الواحد منهم بمنزلة قلم في يد الروح القدس، ولو أن الروح القدس لم يبتلع شخصيتهما,
قال المعترض الغير مؤمن: يُعلم من كلام متى أن سكان أورشليم وهيرودس لم يعرفوا بولادة المسيح قبل مجيء المجوس, ويُعلم من كلام لوقا أنه لما ذهب والدا المسيح إلى أورشليم بعد التطهير لتقديم الذبيحة، فسمعان الذي كان رجلاً تقياً ممتلئاً من الروح القدس أُوحي إليه أن لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب، فأتى بالروح إلى الهيكل وأخذ الصبي على ذراعيه وقال: أطلق عبدك بسلام لأن عينيّ أبصرتا خلاصك، نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل, وحنّة النبية التقية وقفت تسبح الرب وتكلمت مع جميع المنتظرين فداءً في أورشليم, فلو كان هيرودس وسكان أورشليم معاندين للمسيح لما أخبر سمعان وحنة النبية بهذا الخبر ,
وللرد نقول بنعمة الله : قال متى إنه لما أتى المجوس إلى أورشليم استفهموا عن ملك اليهود الذي وُلد حديثاً، فلما سمع هيرودس اضطرب وجميع أورشليم معه، وهو أمر طبيعي لأنه خاف على ضياع ملكه, فقول المعترض إنه لا يصح أن يكون هو ورجال دولته وأعيان مملكته معاندين هو خلاف المعهود في طباع البشر, فلا عجب إذا فزع لأنه ظن أن المسيح أتى ليأخذ مملكته, وأما النبي فأوحى إليه الله عن ميلاد المسيح وكذلك حنة النبية, ولم يذكر الإنجيل أن حنة أشاعت هذا الخبر، بل قال إنها وقفت تسبح الله، وتكلمت مع الأتقياء المنتظرين فداءً في أورشليم, وهو لا يستلزم أن الملك سمع بهذا الخبر، فالله أوحى لكلٍّ من سمعان وحنة,
فإذا كان قصد المعترض أن الله أوحى إلى الملك وجميع أورشليم كذلك، لزم أن يكون جميع الناس أنبياء، وهو غريب, ولو سلّمنا له بأن خبر افتقاد الله لشعبه شاع في الهيكل، فلا يلزم من هذا أن الملك ورجال دولته كانوا عارفين به, ولو عرفوا به لما التفتوا إليه، لأنه كان أمراً دينياً لا يهم أرباب السياسة, ولكن لما أتى المجوس وقالوا إنه وُلد ملك، اضطرب هيرودس وجزع,
قال المعترضالغير مؤمن: وردت في متى 2: 1-10 قصة مجيء المجوس إلى أورشليم برؤية نجم المسيح في المشرق، وقيادة النجم لهم بأن تقدَّمهم حتى جاء ووقف فوق الصبي, وهذا غلط، لأن حركات الكواكب السيارة، وكذا الحركة الصادقة لبعض ذوات الأذناب هي من المغرب إلى المشرق، فعلى هاتين الصورتين يظهر كذبها، لأن بيت لحم تقع جنوب أورشليم, نعم إن دائرة حركة بعض ذوات الأذناب تميل من الشمال إلى الجنوب ميلاً ما، لكن هذه الحركة بطيئة جداً من حركة الأرض فلا يمكن أن تُحَس هذه الحركة إلا بعد مدة، وفي المسافة القليلة لا تحس بالقدر المعتدّ به، بل مَشْي الإنسان يكون أسرع كثيراً من حركته, فلا مجال لهذا الاحتمال، ولأنه خلاف علم الضوء أن يرى وقوف الكوكب أولاً ثم يقف المتحرك، بل يقف المتحرك أولا ثم يُرى وقوفه ,
وللرد نقول بنعمة الله : بما أن الإنجيل قال إن المجوس جاءوا من المشرق، فلا تكون أورشليم شمالهم ولا جنوبهم,
أما هؤلاء المجوس فكانوا حكماء يرصدون النجوم والكواكب، وكان اليهود يعتقدون بوجود أنبياء في مملكة سبا، من ذرية إبراهيم من زوجته قطورة، وقيل إن أصلهم من اليهود، وقيل غير ذلك, وقد كان بلعام من جبال المشرق (عدد 22: 5 و23: 7), فظهور أمثال المجوس من المشرق ليس بأمر غريب، وقد أقام الله كورش وأثنى عليه (إشعياء 41: 2 و46: 11),
أما قوله نجمه فليس معناه الكواكب السيارة كما توهَّم المعترض، بل هي حادثة جوية ذات أنوار ساطعة, فإذا ثبت أن المجوس كانوا من اليهود المغتربين في الشتات، فلابد أنهم عرفوا بعض النبوات المختصة بالمسيح، ولا بدّ أنهم اعتقدوا أن هذا الحادث الفلكي هو الكوكب الذي ذكره بلعام في سفر العدد 24: 17, وإذا كانوا من غير اليهود، فلا بدّ أنهم عرفوا من اليهود وقت الشتات، شيئاً عن الفادي المنتظر، فإن اليهود كانوا يعرفون قرب مجيء المسيح (دانيال 9: 25-27) وكانوا يعتقدون أنه سيجيء ملكاً ينقذهم من عبودية الرومان, فلا عجب إذا انتشر هذا في كثير من الممالك، ولا سيما أن كثيرين من اليهود كانوا ساكنين في مصر وروما واليونان، وتوجّه كثير منهم إلى بلاد الشرق، وكانوا يحملون كتبهم معهم حيثما توجهوا, وقال سويتون (أحد مؤرخي روما): كان من المقرر في أذهان سكان الشرق أنه لابدّ من ظهور واحد من اليهودية تكون مملكته عمومية، وأن ذلك كان قَدَراً مقضياً به , وقال تاسيتوس (وهو من مؤرخي روما أيضاً): كان كثيرون يعتقدون أنه ورد في كتب كهنتهم القديمة أنه سينتصر الشرق، ويخرج واحد من اليهودية ويملك الدنيا , وذكر يوسيفوس وفيلو (وهما من مؤرخي اليهود) أن الناس كانوا ينتظرون مجيء منقذ عظيم, وذُكر في كتب الفرس عن زرادشت أنه سيأتي ثلاثة منقذين، اثنان من الأنبياء، أما الثالث وهو زفس، فهو أعظم من الاثنين، ويهزم أهريمان، ويقيم الموتى, فلذلك أتى المجوس إلى أورشليم، وبالاستفهام من أئمة الدين استدلوا أنه يولد في بيت لحم اليهودية، فتوجهوا إليها وقدموا له الهدايا التي لا تليق إلا بالملوك (تكوين 43: 11 ومزمور 72: 15 و1ملوك 10: 2 و10),
وقال الفلكي كبلر إنه في ذلك الوقت حصل اقتران بين المشترى وزُحل، وحصلت حادثة فلكية, ثم أيَّد ذلك العلامة أدلر (من علماء برلين), وقد كشفت الدراسات الفلكية الحديثة خطأ المعترض,
قال المعترض الغير مؤمن: متى 2: 6 تخالف ميخا 5: 2, تقول آية إنجيل متى إن رؤساء اليهود قالوا إن المسيح يولد في بيت لحم اليهودية، واستشهدوا بأقوال النبوة: وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لَسْتِ الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل , ويقول ميخا: أما أنت يابيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل ,
وللرد نقول بنعمة الله : اقتبس الرسول متى قول أئمة اليهود، وهو ليس مسؤولاً عن مطابقته لأصل أقوال النبي أم لا, والمنصف إذا دقق النظر وجد المعنى واحداً، وهو أن المسيح شرَّف تلك الجهة الصغيرة, فالنبي قال بالاستفهام الإنكاري: وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا , بمعنى وأنت لست الصغرى وهو مثل قوله فمن يهدي من أضلّ الله؟ يعني: لا يمكن أن يهدي أحدٌ من أضلَّه الله, وعلى كل حال فالنبي روى مقالهم,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 2: 17 و18 حينئذ تمّ ما قيل في إرميا النبي القائل: صوتٌ سُمع في الرامة، نوحٌ وبكاءٌ وعويلٌ كثير, راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين , وهذا أيضاً غلط وتحريف من الإنجيل، لأن هذا المضمون وقع في إرميا 31: 15 , ومَنْ طالع الآيات التي قبلها وبعدها علم أن هذا المضمون ليس في حادثة هيرودس، بل في حادثة بختنصر التي وقعت في عهد إرميا، فقُتل ألوف من بني إسرائيل، وأُسر ألوف منهم، وأُجلوا إلى بابل, ولما كان فيهم كثير من آل راحيل أيضاً تألمت روحها في عالم البرزخ، فوعد الله أن يُرجع أولادها من أرض العدو إلى تخومهم,
وللرد نقول بنعمة الله : عبّر البشير متى عن قتل الأطفال في بيت لحم بأقوال إرميا النبي، وكانت غاية إرميا النبي في الأصل الإعراب عن التوجّع لما حصل للأمة الإسرائيلية وما حلّ بها من القتل والسبي, وبيان ذلك أنه لما استولى نبوخذنصَّر على أورشليم قتل وجهاءها وأعيانها، وقلع عين ملكها بعد أن قتل ابنيه أمامه، وجمع الأسرى في الرامة ومنهم إرميا النبي, وكان الجميع مكبّلين بالأغلال والسلاسل, ولما سُبُوا من الأوطان وكانوا مزمعين على السفر الأليم، أخذ النبي يتفجع على هذه الحالة ويبكي ويستبكي, ولا شك أن قول النبي إرميا تحقق وتمّ في هذه الحادثة المحزنة أيضاً, ولا يخفى أن راحيل كانت قد ماتت قبل السبي, ومن أنواع البلاغة أن نسَبَ النبي إليها البكاء والنحيب على أولادها وقت السبي، ونسب إليها البكاء على أولادها وقت حادثة بيت لحم، فإن ذبح أطفال بيت لحم هو بمنزلة ذبح أولادها، لأنها مدفونة هناك (تكوين 35: 19) وسكان بيت لحم هم من ذرية زوجها وأختها، فهم أولادها, وعبارة متى هى من أبلغ الأقوال، فقوله: راحيل تبكي على أولادها هو جملة خبرية لفظاً، وأُريد بها إنشاء التحسُّر على ذبح الأطفال, وهذا معهود في اللغة العربية وغيرها، فيجوز للإنسان أن يندب بهذه الصورة، حتى يدعو الشاعر الشجر للبكاء:
أيا شجر الخابور ما لك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريق؟
فكيف لا يجوز نداء الأم لتبكي على أولادها؟
أما قوله إن الأموات يظهر لهم في عالم البرزخ حال أقاربهم، قلنا إن المسيحية لا تؤمن بمثل هذا,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 2: 19 أن هيرودس الملك مات لما كان المسيح طفلاً في مصر، بينما يؤكد لوقا 23: 8 أن هيرودس كان حيّاً بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة، وأن المسيح مثُل أمامه للمحاكمة - فكيف تنكرون هذا التناقض؟
وللرد نقول بنعمة الله : لو رجعت إلى لوقا 3: 1 لاسترحت من الاعتراض! فإن هيرودس الذي مات أثناء طفولة المسيح هو هيرودس الكبير، الذي حكم فلسطين بتفويض من الرومان, ولما مات انقسمت مملكته إلى أربعة أقسام، فحكم ابنه هيرودس أنتيباس على الجليل (لوقا 3: 1) وهو المعروف برئيس الربع (متى 14: 1), وهذا هو هيرودس الذي حاكم المسيح (لوقا 23: 6 و7 قارن لوقا 3: 1), وهو نفسه هيرودس الذي يتحدث عنه سفر الأعمال 4: 27,
وهناك هيرودس آخر، هو هيرودس أغريباس المذكور في أعمال 12: 1 و23, وقد ذكر هذا المؤرخ اليهودي يوسيفوس، والمؤرخ الروماني تاسيتوس,
ولا يصعب على المعترض أن يدرك أن عدة أشخاص يمكن أن يحملوا نفس الأسم، خصوصاً وأن الحفيد يحمل اسم جده,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في إنجيل متى2: 23 وأتى وسكن في مدينة يُقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيُدعَى ناصرياً , وهذا غلط، ولا يوجد في كتاب من كتب الأنبياء, وينكر اليهود هذا الخبر أشد الإنكار، ويعتقدون أنه لم يقم نبي من الجليل فضلاً عن الناصرة كما في يوحنا 7: 52, وقال الكاثوليك إن اليهود ضيّعوا هذه الكتب قصداً وإن فم الذهب قال إن اليهود ضيَّعوا كتباً من غفلتهم ولعدم ديانتهم ومزقوا بعضاً وأحرقوا البعض الآخر ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1)لم يخصّ البشير متّى بالذكر نبياً بعينه في 1: 22 و2: 15 و17 بل قال بالأنبياء بصيغة الجمع, وقال العلامة إيرونيموس: نقل متى البشير أقوال الأنبياء بالمعنى فقط , فإن كلمة الناصري تفيد الاحتقار، وكان الإسرائيليون يزدرون بالجليليين عموماً وبالناصريين خصوصاً, فلفظة ناصري هي كلمة احتقار تُطلق على الدنيء، وكان اليهود يسمّون اللص الشقي ابن ناصر , واستعمل مؤرخو اليهود هذه اللفظة في المسيح، فقال المؤرخ اليهودي آبار بينال إن القرن الصغير (دانيال 7: 8) هو ابن ناصر، يعني يسوع الناصري, وكثيراً ما يطلق اليهود وأعداء المسيحيين لفظة ناصري على المسيح ازدراءً به وتهكماً عليه، فكانت إقامته في الناصرة من أسباب ازدراء أهل وطنه به ورفضهم إياه, فلما قال فيلبس لنثنائيل: وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة قال له نثنائيل: أَمِنَ الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟ (يوحنا 1: 46), ولما دافع نيقوديموس أحد أئمة اليهود عن يسوع، قال له أعضاء مجلس الأمة: فتش وانظر، إنه لم يقم نبي من الجليل (يوحنا 7: 52) وبما أن الأنبياء تنبأوا في محال كثيرة (مزمور 22: 6 و59: 9 و10 وإشعياء 52 و53 وزكريا 11: 12 و13) أن المسيا يُحتقر ويُرفض ويُزدرى به، كانت نبواتهم هذه بمثابة قولهم إنه ناصري , وعلى هذا لما قام المسيح في الناصرة قال إن نبوات الأنبياء قد تحقَّقت (لوقا 4: 21), فكما أن النسب يكون للشرف، كذلك يكون للضِّعة، بالنسبة إلى رفعة أو ضعة البلاد التي يُنسب إليها الإنسان, وقولنا ناصري هو بمنزلة محتقر كعِرْقٍ من أرضٍ يابسة لا صورة له ولا جمال (إشعياء 53: 2),
أما قول فم الذهب إن اليهود ضيَّعوا كتبهم لمعاكسة المسيحيين وإنهم مزقوا بعضها وأحرقوا بعضها فهو افتراء محض، فكتبهم التي يتعبدون بتلاوتها لغاية الآن تشهد للمسيح، وتوضّح صفاته وكمالاته وآلامه موته وصلبه وعمل الفداء العجيب، بل أوضحت بالدقة وقت تجسّده ومكانه، بحيث لو لم يكن الإنجيل بيننا لعرفنا فحواه من التوراة, فلو مزقوا شيئاً أو أحرقوه لظهر اختلاف بين الإنجيل والتوراة، مع أنه لا يوجد أدنى اختلاف في التعاليم الجوهرية, والفرق بين اليهود والمسيحيين هو أن اليهود لا يزالون ينتظرون مجيء المسيح، أما المسيحيون فيعتقدون أنه أتى,
(2) ويجوز أن متى نقل أقوال الأنبياء بالمعنى, وقوله ناصري من جوامع الكلام، يشتمل على معانٍ كثيرة جداً لا تقوم مقامها الألفاظ الكثيرة, والنقل بالمعنى جائز كما قرروه في أصول الفقه، فيجوز نقل الأحاديث بطرق كثيرة فيجوز (أ) أن يُروى الحديث بلفظه (ب) يجوز أن يُروى بغير لفظه, (ج-) يحذف الراوي بعض لفظ الخبر (د) أن يزيد الراوي على ما سمعه (ه-) أن يحتمل الخبر معنيين متنافيين فاقتصر الراوي على إحدهما (و) أن يكون الخبر ظاهراً في شيء فيحمله الراوي على غير ظاهره، إما بصرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب، أو من التحريم إلى الكراهة, فمتى نقل بالمعنى أقوال الأنبياء وهو جائز,
فيتضح مما تقدم (1) أن الأنبياء تنبأوا عن المسيح بأنه يُحتقر ويُرذل، وهو مثل قوله ناصري , (2) لا نتعجب من اليهود إذا أنكروا النبوات عن المسيح، فإنهم لا يؤمنون به، وهم الذين قتلوا أنبياءهم ورجموهم, (3) نقل متى أقوال الأنبياء بالمعنى,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في إنجيل متى 3: 1 وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية ولما كان في آخر أصحاح 2 ذكر حكم أرخيلاوس لليهود بعد موت أبيه، وانصراف يوسف مع مريم والمسيح إلى نواحي الجليل وإقامته في ناصرة، يكون المشار إليه بلفظ تلك هذه المذكورات، فيكون معنى هذه الآية: لما حكم أرخيلاوس، وانصرف يوسف النجار إلى نواحي الجليل، جاء يوحنا المعمدان , وهذا غلط لأن وعظ يوحنا كان بعد 28 سنة من الأمور المذكورة ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1)يعود إسم الإشارة إلى أقرب مذكور كما هو مقرّر في علوم اللغة, ولكن التعسف جعل المعترض يعود إلى أبعد مذكور, والمتبادر إلى الذهن هو أن مراد البشير بقوله تلك الأيام هو أيام سكن المسيح في الناصرة وهو أقرب مذكور، لأنه قال: وأتى وسكن في مدينة يُقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيُدعى ناصرياً ثم قال: وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان ,
(2) الكلام مُسَاق على يوسف وسكن المسيح في الناصرة، لأنه هو المقصود بالذات, وإنما ذكر أرخيلاوس ليوضح بدء إقامة المسيح في الناصرة، وأنه أقام فيها سنين عديدة,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 3: 2 توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات وهي كلمات يوحنا المعمدان وكررها المسيح (متى 4: 17), وملكوت السموات إشارة إلى مملكة الإسلام (انظر متى 13: 31 و32) ,
وللرد نقول بنعمة الله : يجب لفهم معنى ملكوت السموات أو ملكوت الله أن نراجع المواضع التي وردت فيها هذه العبارة، ففي متى 12: 28 قال المسيح (له المجد): ولكن إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله وفي مرقس 9: 1 قال لتلاميذه: الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة , وفي مواضع أخرى يصرح أن هذا الملكوت يبدأ به في حياته، ثم يمتد بعد موته ويكمل بعد مجيئه ثانية ليدين المسكونة بالعدل ويحكم بالحق والإنصاف (دانيال 7: 13 و14 ورؤيا 11: 15), وأما في الوقت الحاضر فملكوت الله آخذ في الامتداد يومياً بواسطة الكرازة بالإنجيل ودعوة الناس للدخول فيه (متى 28: 8-20), وليس ملكوت السموات نظير ممالك العالم (يوحنا 18: 36) وهو لا يأتي بأبَّهة عالمية (لوقا 17: 20) وأعضاؤه هم المساكين بالروح (متى 5: 3) لا المتكبرين ولا عظماء هذا الدهر, ولا يقدر أحد أن يدخل هذا الملكوت ما لم يولد من جديد ولادة روحية (يوحنا 3: 3 و5) ومن المستحيل أن يدخل إليه الأشرار (1كورنثوس 6: 9 و10 وغلاطية 5: 20 و21 وأفسس 5: 5) ولهذه البراهين والأدلة لا معنى لقول المعترض,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 3: 14 أن المسيح أتى إلى يوحنا ليعتمد منه، فمنعه يوحنا قائلاً: أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ! ثم اعتمد المسيح وصعد من الماء، فنزل عليه الروح مثل حمامة, وورد في يوحنا 1: 33 وأنا لم أكن أعرفه (وعرفتُه بنزول الروح مثل حمامةٍ ونارٍ), وفي متى 11: 3 لما سمع يوحنا بأعمال المسيح أرسل اثنين من تلاميذه يسألونه: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ , في الأول عرف يوحنا قبل نزول الروح، وفي الثاني عرفه بعد نزول الروح، وفي الثالث لم يعرفه بعد نزول الروح ,
وللرد نقول بنعمة الله : قول يوحنا لم أكن أعرفه معناه أنه لم يكن يعرفه قبل نزول الروح القدس أي قبل سماع الصوت من السماء هذا هو ابني الحبيب , وكل إنسان له أحوال، فله حالة قبل المعرفة وحالة بعدها، بعد أن تكون قد ظهرت له الأدلة بصحة الدين, وكذلك للأنبياء حالات قبل الوحي وبعده, فالله المعلم الحقيقي أوحى إلى يوحنا بأن المسيح هو الموعود به، فشرح حاله قبل هذه المعرفة بقوله وأنا لم أكن أعرفه , ثم قال: أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ ,
وإذ تقرر ذلك فلا تناقض، فإنه يلزم في التناقض اتحاد الزمان والمكان, ولا اتحاد هنا في الزمان,
أما إرسال يوحنا التلميذين إلى المسيح فهو لكي يوقفهما على الحقائق بنفسيهما، ليصدّقا بالعيان، ولاسيما إن يوحنا كان مسجوناً وقتئذ ولم تتيسّر له مشاهدة المعجزات الباهرة التي صنعها المسيح، فلذا قال لهما المسيح: اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران: العُمي يبصرون، والعرج يمشون، والبُرْص يُطهَّرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشَّرون , فيصدقون بعد رؤية المعجزات الباهرة,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 3: 15 قول المسيح للمعمدان بخصوص معمودية المسيح اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر , وهذا يعني أن بعض الفرائض الدينية لا فائدة منها ولا معنى روحي لها ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) كان الغرض من معمودية يوحنا المعمدان إعلان توبة قومية تشترك فيها الأمة الإسرائيلية كلها، للدخول في حياة جديدة، وبدء ملكوت جديد, وقد رأى المسيح أن يعتمد من يوحنا، لا لأنه خاطئ يتوب، لكن لأنه يمثّل الأمة التي يريد لها التوبة, فهو ابن الإنسان الذي يريد أن يخلّصنا,
وعند مراجعة تاريخ بني إسرائيل نرى أن الأتقياء الصالحين اشتركوا مع الخطاة الضالين أوقات التذلل والتوبة القومية, هكذا فعل دانيال بالرغم من شدة صلاحه (دانيال 9: 4),
ولما رأى المسيح أن معمودية يوحنا فرضٌ يهودي في عصره لم يختلف عن قومه في هذا الواجب، ليشجع التائبين، وكأنه يقول: لا أعفي نفسي من القيام بكل ما يطلبه الله من بني إسرائيل في الواجبات العمومية,
(2) وكان الغرض من معمودية المسيح هو افتتاح خدمته رسمياً, ولم يكن قبول المسيح المعمودية على شواطئ الأردن أصعب من قبوله فداءنا على الصليب, لقد شارك المسيح الناس في ممارسة فريضة دينية هامة,
قال المعترض الغير مؤمن: اختلف البشيرون في رواية خبر الصوت الذي سُمع من السماء وقت نزول الروح القدس على المسيح، فقال متى 3: 17 هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت , وقال مرقس 1: 11 أنت ابني الحبيب الذي به سُررت وقال لوقا 3: 22 أنت ابني الحبيب الذي بك سُررت ,
وللرد نقول بنعمة الله : لا يجرؤ أحد على القول إن جوهر العبارات مختلف، لأن المعنى المقصود فيهما واحد, على أننا لا ننكر وجود اختلاف في الأسلوب, فبحسب الوارد في مرقس الكلام موجَّه إلى المسيح, ولكن حسب الوارد في متى العبارة مقولة عنه، ويُرجّح عندنا أن مرقس أورد نص كلام الأب كما هو, أما متى فقد جاء بخلاصته, وللإيضاح نضرب مثلاً: فلنتصور عدداً من الناخبين أجمعوا على انتخاب ممثل لهم فدوَّن أحدهم محضر الجلسة: أجمع الناخبون على انتخاب فلان، وصاحوا مشيرين إليه: أنت هو الرجل الجدير بالثقة , وجاء آخر بخلاصة المحضر نفسه فقال: حاز فلان ثقة جميع الناخبين، وقالوا عنه: هذا هو الرجل الجدير بالثقة , فهل يمكن في حال كهذه اتّهام التقريرين بالتناقض؟
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 4: 5 ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل وفي آية 8 ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً وفي آية 12 وانصرف المسيح إلى الجليل وفي آية 13 وترك الناصرة وأتى فسكن في كفر ناحوم التي عند البحر , وورد في لوقا 4: 5 ثم أصعده إبليس إلى جبل عال وفي آية 9 ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وفي آية 14 ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل وفي آية 15 وكان يعلّم في مجامعهم وفي آية 16 وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربّى ,
وللرد نقول بنعمة الله : أخذ المعترض شطراً من بعض آيات، ولكنه ترك باقي الكلام، الذي يبرهن أن المسيح توجَّه إلى كفر ناحوم، ففي لوقا 4: 31 ذكر أن المسيح انحدر إلى كفر ناحوم، وعليه فلا يوجد أدنى تناقض ولا اختلاف، فإن متى ولوقا قالا إن المسيح توجَّه إلى الجليل ثم ترك الناصرة لما رفضته ثم أتى إلى كفر ناحوم,
أما من جهة تجربة المسيح فذكر متى: (1) تحويل الحجارة خبزاً (2) طلبه أن يطرح نفسه من جناح الهيكل (3) أن يسجد للمجرّب (4) أن يطرح نفسه من جناح الهيكل, فمتى ذكر التجارب بحسب ترتيب الزمان، أما لوقا فراعى ترتيب المكان، وذكر التجربتين اللتين حصلتا في البريّة أولاً، فإن طلب تحويل الحجارة خبزاً وطلب السجود للمجرّب كانا في البرية,
قال المعترض الغير مؤمن: من قارن بين متى 4: 18-22 ومرقس 1: 16-20 ويوحنا 1: 35-46 وجد ثلاثة اختلافات في دعوة التلاميذ, (1) قال متى ومرقس إن المسيح دعا بطرس وأندراوس ويوحنا عند بحر الجليل فتبعوه، أما يوحنا فقال إن المسيح رأى غير هؤلاء عند عبر الأردن (2) يُفهم من متى ومرقس أنه رأى أولاً بطرس وأندراوس على بحر الجليل، وبعد هنيهة لقي يعقوب ويوحنا على هذا البحر, وقال يوحنا إن يوحنا وأندراوس لقياه أولاً بقرب عبر الأردن، ثم قاد أندراوس أخاه بطرس للمسيح, وفي الغد لما أراد المسيح التوجه إلى الجليل رأى فيلبس ثم جاء نثنائيل بهداية فيلبس ولم يذكر يعقوب (3) ذكر متى ومرقس أنه لما لقي المسيح التلاميذ كانوا يشتغلون بإلقاء الشبكة وبإصلاحها، ويوحنا لم يذكر الشبكة بل ذكر أن يوحنا واندراوس سمعا وصف المسيح ليوحنا وجاءا للمسيح، ثم جاء بطرس بهداية أخيه ,
وللرد نقول بنعمة الله : ذكر يوحنا في إنجيله أول مقابلة بين المسيح للتلاميذ، أما مرقس ولوقا فذكرا حادثة جاءت بعد ذلك هي دعوة المسيح للتلاميذ ليكونوا رسلاً, والدليل على ذلك (1) اختلاف المكان، فيوحنا ذكر ما حصل في بيت عبرا في عبر الأردن، أما متى ومرقس فذكرا ما كان عند بحر الجليل,
(2) مما يدل على أن هذه أول مرة سمعوا فيها المسيح قول يوحنا وفي الغد أيضاً كان يوحنا واقفاً هو واثنان من تلاميذه، فنظر إلى يسوع ,,, فتبعا يسوع ,
(3) مما يدل على أنها غير الدعوة الرسولية قول يوحنا في آية 39 إنهما مكثا عنده ذلك اليوم، يعني أنهما عادا ثانية إلى أشغالهما الاعتيادية,
(4) الدعوة المذكورة في متى ومرقس هي الدعوة الرسولية، والدليل على ذلك قول المسيح لهما: هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس ,
(5) يسلم المعترض أن يوحنا قال إنه لما كلمهم لم يكونوا مشتغلين بشباكهم, والحاصل أن متى ومرقس ذكرا دعوة المسيح للرسل ليكونوا رسلاً لتعليم الناس، أما يوحنا فذكر أول اجتماعه ببعضهم في مكان غير المكان الذي دعاهم فيه المسيح، وحينئذ فلا يوجد تناقض، لأنه يلزم من التناقض اتحاد الزمان والمكان وغيره,
قال المعترض الغير مؤمن: يقول متى 5: 1 و2 إن المسيح ألقى موعظته الأولى من على جبل، بينما يقول لوقا 6: 17 و20 إنها أُلقيت في سهلٍ ,
وللرد نقول بنعمة الله : هاتان عظتان أُلقيتا في مناسبتين مختلفتين، ولو أن بعض أفكارهما متشابهة, ولا يمكن أن يجزم أحدٌ بأن أيّاً منهما هي عظة المسيح الأولى,
قال المعترض الغير مؤمن: كيف يقول المسيح: طوبى للحزانى (متى 5: 4) بينما يطالب بولس المؤمنين بالفرح في فيلبي 4: 4؟
وللرد نقول بنعمة الله : طوبى لمن يحزن على خطاياه، فينال الفرح الناتج عن الغفران الذي يهبه الله للتائبين, نبدأ بالحزن الذي يتبعه الفرح,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 5: 9 طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون وورد في متى 10: 34 ما جئتُ لألقي سلاماً بل سيفاً , فبين الكلامين اختلاف ,
وللرد نقول بنعمة الله : انظر تعليقنا على متى 10: 34
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 5: 16 فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات , ولكن جاء في متى 6: 1 احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم, وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات , وهذا يعني أن المسيح يقول في موعظة واحدة إنه يجب أن يضيء نورنا حتى يرى الناس أعمالنا الحسنة, ويقول أيضاً إنه يجب علينا أن نعمل الصالحات سراً حتى لا يرانا الناس, فكيف يمكننا التوفيق بين هذين القولين؟
وللرد نقول بنعمة الله : ما جاء في متى 5: 16 وما قبله يحرض فيه المسيح تلاميذه على الأعمال الصالحة، معلّماً إياهم أنهم جاهزون لخدمة الله والناس، مشبِّهاً إياهم بملح الأرض ونور العالم, فالمواهب المعطاة لهم يجب استثمارها وعدم إهمالها, فبصفتهم ملحاً كانت لهم قوة الشفاء والتطهير، وبصفتهم نوراً وجب عليهم أن يكونوا قادة ومرشدين, وفي متى 6: 1 يشير المسيح إلى الباعث الذي منه يجب أن تصدر الأعمال الصالحة, فيعلِّمنا أن أعمالنا لكي تكون مرضيَّة عند الله ينبغي أن يكون الباعث عليها روح التواضع والإخلاص، لا روح العُجْب وحب الظهور, ويجب أن يكون الغرض الموضوع أمامنا مجد الله وخير الآخرين, وفي متى 5: 16 يقول المسيح اعملوا أعمالاً صالحة حتى يراها الناس فيتمجد اسم أبيكم السماوي الإله العظيم وفي متى 6: 1 يقول لا تعملوا الأعمال الصالحة وغرض قلوبكم اكتساب مدح الناس، إذ في حالة كهذه تضيع قيمتها أمام الله ,
وبالإجمال نقول إن المسيح في إحدى الآيتين يدلّنا على الأعمال الصالحة، وفي الأخرى يحذرنا من إتيان الأعمال الصالحة عن باعث سيء,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 5: 17-19 لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء, ما جئت لأنقض بل لأكمل, فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل , ولكن جاء في غلاطية 4: 10 و11 أتحفظون أياماًوشهوراً وأوقاتاً وسنين؟ أخاف عليكم أن أكون قد تعبْتُ فيكم عبثاً , فيقول بولس إن الناموس الخاص بحفظ الأيام والشهور والأوقات والسنين لا علاقة له بَعْد بالمؤمنين، والمسيح يقول: لا يسقط حرف واحد من الناموس ,
وللرد نقول بنعمة الله : أمدَّنا الكتاب المقدس بالمعلومات اللازمة لملاشاة الصعوبة الظاهرية, فيعلمنا أن لله ناموساً صالحاً مقدساً ثابتاً إلى الأبد، هو الناموس الأخلاقي, فقول المسيح: لا تسقط نقطة واحدة أو حرف واحد من الناموس قصد به الناموس الأخلاقي, كما أن بولس نفسه يثبت في رسالة غلاطية أن ناموس الله الأخلاقي لا يُنقَض, وعلى القارئ أن يدرس غلاطية 5: 19-21 ليرى أنه لا يمكن أن يُستفاد من كلام بولس بُطلان التمييز بين الخير والشر (قابل رومية 3: 31), هذا الناموس يديننا لأننا لم نحفظه, وليس معنى خلاصنا أن الناموس قد أصبح ميتاً لكوننا في عهد النعمة، فإن نائبنا الرب يسوع المسيح قد وفّاه إلى التمام, ويجب أن نذكر أيضاً أن بعض النواميس الواردة في العهد القديم كان المقصود بها شعب إسرائيل دون سواهم، وكانت ثابتة في تدبير العهد القديم فقط, ونجد في أسفار العهد القديم إشارات ومواعيد تثبت هذه الحقيقة (قارن إرميا 31: 31-34), وقد أورد كتبة العهد الجديد فصولاً عديدة تفيد هذه الحقيقة المجيدة وهي تحريرنا من عبودية الناموس الطقسي (قارن أعمال 15: 7-11 وكولوسي 2: 2-16 و17 وأفسس 2: 15)
سلسلة الآيات هذه تتفق مع ما جاء في رسالة غلاطية حيث يوبخ بولس المؤمنين المتزعزعين على تمسّكهم بالفروض القديمة التي تقضي بضرورة حفظ الأيام والشهور والأوقات والسنين, فما يُستفاد من تعليم بولس هو أن تلك الفرائض كان يجب حفظها طالما كان الناموس المختصّ بها سارياً، أي في العهد القديم, ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه (غلاطية 4: 4) وإذ ذاك بَطُل عهد الناموس، وتوقفت الفرائض الطقسية التي أعطاها الله بواسطة موسى, فالكتاب بجملته يفيد ويؤكد أن الناموس الطقسي كان سارياً إلى وقت مجيء المسيح فقط, إن الفصلين صادقان, فبولس يتكلم عن الناموس الطقسي، والمسيح يشير إلى الناموس الأخلاقي,
قال المعترض الغير مؤمن: أعلن المسيح في متى 5: 17 انه لم يأت لينقض الناموس بل ليكمله, ولكن يناقض هذا قول العبرانيين 7: 18 فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها ,
وللرد نقول بنعمة الله : تقدم الموعظة على الجبل (التي اقتبس منها متى 5: 17) مثلاً بعد آخر يبرهن أن المسيح أكمل الناموس والأنبياء ولم ينقضهما, ولا زلنا نحن المسيحيين نحترمهما ونقرأهما في عبادتنا بالكنائس,
أما ما جاء في العبرانيين 7: 18 فيتحدث عن أحد أجزاء الشريعة التي بطلت بعد تحقيق الغرض منها، مثل الذبائح التي طالبت شريعة موسى بها, فهذه كانت تشير إلى حاجة البشر لذبيحة المسيح الكفارية، فلما تمت الذبيحة على الصليب لم تعد هناك حاجة للذبائح التي طالبت شريعة موسى بها,
لقد كانت أجزاء الشريعة التي بطلت مثل الشيك على البنك، تبطل قيمته بعد صرف المبلغ من البنك, ونحن لا نقول إن البنك ألغى الشيك، بل أكرمه بأن دفع قيمته,
ولم يكن ناموس موسى للعالم كله، ولكنه كان عهداً بين الله وبني اسرائيل, أما ما به من مبادئ فأزلي دائم, فالمبادئ دائمة، لكن تفاصيلها تناسب عصرها وظروفها,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 5: 22 من قال لأخيه: رقا يكون مستوجب المجمع، ومن قال: يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم , ولكن المسيح قال للفريسين إنهم حمقى (متى 23: 17) وقالها بولس لأهل كورنثوس (15: 36) ولأهل غلاطية (3: 1) ,
وللرد نقول بنعمة الله : ليس المهم في الكلمة التي تُقال، بل في روح قولها, الذي ينهانا المسيح عنه هو قولة الغضب لإذلال الناس والسخرية منهم والإقلال من شأنهم, ولكن كلمة التوبيخ الذي يريد الصالح العام، بدافع الرغبة في الإصلاح، هي كلمة لازمة, كان المسيح وبولس يصفان مستمعيهما، لا بهدف تفشيلهم، بل لإبعادهم عن تصرفات الحماقة,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 5: 39 وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر, بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً ولكن جاء في لوقا 22: 36 فأقول لكم الآن: من له كيس فليأخذه ومذود كذلك, ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتري سيفاً , وهذا تناقض ,
وللرد نقول بنعمة الله : من يدَّعي وجود تناقض بين هاتين الآيتين يرى افتقاره الكلي إلى الفهم الروحي, في متى 5: 39 يقول يسوع ما معناه إذا وقع عليك اعتداء فتحمَّلْهُ بكل صبر، ولا تقابلْهُ بالنقمة , هذه العبارة المقتبسة من موعظة الجبل تسبق مباشرة أمر يسوع لتلاميذه بمحبة الأعداء, فيسوع بقوله لا تقاوموا الشر يشير إلى إحدى الطرق التي بها نُظهر المحبة للأعداء, فإذا وقع علينا ظلم يجب أن نقابله بالمحبة لا بالنقمة, فبدلاً من أن نسيء إلى من يعتدي علينا يجب أن نخدمه بحسب حاجته، إظهاراً للمحبة,
وهنا يسأل سائل إذا سطا على بيتنا لصّ، ألا يجوز أن نستغيث برجال الشرطة أم نترك أمتعتنا للنهب؟ وردّاً على هذا نقول إن في مثل هذه الأحوال يجب أن ننقاد بروح المحبة والرأفة لا بروح الحقد والانتقام, إذا أضرم عدو ناراً في بيتنا مثلاً، فمحبتنا لذوينا توجب علينا إخماد النار, وعملٌ كهذا تقضي به حتى محبتنا لأعدائنا, لأننا إن قصّرنا في إخماد النار يزداد الشر الذي قصده العدو, والخلاصة أن المسيح يقصد تعليم هذا المبدأ اغلب الشر بالخير (رومية 12: 21),
إن محبتنا للص تجعلنا نوقفه عن السرقة، ومحبتنا للكاذب تجعلنا نوقفه عن الكذب، ومحبتنا للدكتاتور تجعلنا نوقفه عن دكتاتوريته,
كما أن محبتنا للمسروق تجعلنا نحميه من أن يسرقه اللصوص، ومحبتنا للمخدوع تجعلنا نحميه من الذي يكذب عليه، ومحبتنا للمظلوم تجعلنا نحميه من الذي يظلمه, والمحبة إيجابية فعّالة,
نحتاج إذاً إلى روح تمييز لنعرف كيف لا نقاوم الشر، وكيف نقاوم الشر، فإن الطريقة التي بها نظهر المحبة للأعداء يكون الحكم فيها بحسب الظرف الواقع,
قال المعترض الغير مؤمن: في متى 5: 48 يطالبنا المسيح أن نكون كاملين, وهكذا يطالب الرسول بولس في فيلبي 3: 15 ولكن بولس في فيلبي 3: 11 و12 يقول إنه لم يصل للكمال ,
وللرد نقول بنعمة الله : الكمال المطلوب هو كمال النيّة في طاعة الله، إذ يريد الإنسان بكل قلبه وإرادته أن يطيع, والكمال الذي لا يبلغه الإنسان هو كمال النضوج المسيحي، فكلما بلغ درجة من الكمال وجد درجة أعلى لم يبلغها بعد, فعلينا بكل النية أن نسعى وراء الكمال، عالمين أننا لم نبلغ القمة بعد، ونظل طول عمرنا نتقدم للأمام,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 6: 7 و8 وحينما تصلّون لا تكرّروا الكلام باطلاً كالأمم، فإنهم يظنّون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم, فلا تتشبَّهوا بهم, لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه , ولكن جاء في متى 18: 1 ينبغي أن يُصلّى كل حين ولا يُملّ , يقول أحد الفصلين: صلوا بالإيجاز، ويقول الآخر: صلوا على الدوام وبلا انقطاع ,
وللرد نقول بنعمة الله : يكفي قليل من التأمل للدلالة على عدم تناقض القولين، فمتى يتكلم عن صلاة ظاهرية قاصرة على مجرد كلام, وقد زعم الأمم أن قيمة الصلاة في عدد كلماتها وكثرتها، ولذا كانوا يكررون أقوالاً وعبارات كثيرة بطريقة ميكانيكية دون أن تعبّر أقوالهم عن معانٍ في قلوبهم، فوبَّخ المسيح صلاةً كهذه بأسلوب صارم للغاية,
ولكن توجد في الوقت نفسه صلاة مستمرة مقبولة عند الله ومرضيّة أمامه، وهي صراخ القلب إليه باشتياق وإخلاص, وصاحب هذه الصلاة لا يفشل إذا أبطأ الرب في الإجابة, على أن المؤمن عند عدم استجابة صلاته سريعاً معرَّض لخطر الشك في استماع الله له فيكفّ عن الصلاة, ولذا يحثّنا المسيح في لوقا 18: 5-7 على الاستمرار في الصلاة حتى ولو ظهر كأن أبواب السماء موصدة في وجوهنا, والخلاصة أن المسيح يوبخ صلاة الأمم المطوَّلة المجرَّدة من المعنى وما يشابهها, ومن الجهة الأخرى يحضّ على اللجاجة في الصلاة الصادرة من قلب واثق مخلص,
ويحسن بنا أن نذكر أن بولس في 1تسالونيكي 5: 17 يحض على المواظبة على الصلاة قائلاً: صلّوا بلا انقطاع وكأنه يقول: لتكن حياتكم بالجملة حياة صلاة، ولتكن لكم دائماً شركة دائمة مع الله, عند أول وهلة يظهر قول كهذا مناقضاً لتعليم يسوع عن بطلان كثرة الكلام (متى 6: 7) ألا يعلم الله كل احتياجاتنا؟ فلماذا إذن نستمر في تكرار الطلب والتضرع إليه؟ الرد هو أن المسيح يعلّمنا أنه من الخطأ أن نظن أن كثرة الكلام تزيد الله علماً باحتياجاتنا، فمن هذا القبيل لا حاجة إلى الكلام مطلقاً، لأن الله يعلم كل احتياجاتنا قبل أن نعرفها نحن, ولكن في 1تسالونيكي 5: 17 يتكلم بولس عن حالة القلب، فيحضّنا أن نحيا دائماً في جوّ الصلاة، فنفتكر عن الله وننشغل به كما يفعل الطفل من جهة أبويه, فيجب أن نرغب على الدوام في بَسْط كل مسائلنا ومشاكلنا أمامه، والانقياد على الدوام بكلمته وروحه,
فنرى إذاً أن هذين الفصلين لا يتضمَّنان أقوالاً متناقضة، بل يؤيدان حقيقتين مهمتين: أولاهما أن الصلاة يجب أن لا تكون ميكانيكية على أساس الظن أن فاعليتها تتوقف على كثرة الكلام, والثانية أن حياة المسيحي يجب أن تكون حياة صلاة غير منقطعة وشركة دائمة مع الله,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 6: 13 ولا تُدْخلنا في تجربة لكن نجِّنا من الشرير، لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين , وجملة لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد إلحاقية، ولا توجد في التراجم اللاتينية ولا في غيرها ,
وللرد نقول بنعمة الله : هذه التسبحة ثابتة في نسخ عديدة قديمة, ومما يدل على إنها أصلية وليست ملحقة: (1) كان اليهود يختمون صلواتهم بجملة تسبيحات تشبه الصلاة الربانية, قال آدم كلارك: ثبت عندي أنها أصلية لقدمها , (2) لأنها ثابتة في نسخ عديدة,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 6: 18 فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية , قال آدم كلارك إنها زائدة، وإن كرسباخ ووتستين وبنجل أسقطوها من المتن ,
وللرد نقول بنعمة الله : في أول متى 6 تكلم المسيح عن الصدقة والصلاة والصوم، فقال: فمتى صنعت صدقةً فلا تصوِّتْ قدامك بالبوق إلى أن قال فلا تعرِّفْ شمالك ما تفعل يمينك , ثم قال في آية 4 لكي تكون صدقتك في الخفاء, فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية , ثم تكلم عن الصلاة فقال في آية 6 ومتى صليت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك وصلّ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية, ثم تكلم عن الصوم وقال في آيتي 17 و18 وأما أنت فمتى صُمْت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية , فترى من هنا أن الكلام كله جرى على نسق واحد بديع، بحيث لو حذفت كلمة علانية من العبارة الثالثة لدلَّت عليها العبارتان السابقتان, فسياق الكلام يستلزم وجودها لفظاً أو تقديراً, ولا ننكر أن هذه اللفظة المذكورة في آية 18 لم تثبت في بعض النسخ، ولكنها ثبتت في غيرها، وسياق الكلام يدل عليها,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 6: 31 فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس؟ ولكن جاء في 2تسالونيكي 3: 12 فمثل هؤلاء نوصيهم ونعظهم بربنا يسوع المسيح أن يشتغلوا بهدوء ويأكلوا خبز أنفسهم , يظهر هنا كأن المسيح يعلّم عدم التبصّر أو عدم التدبّر، بينما بولس يلوم على هذا ,
وللرد نقول بنعمة الله : هل يقصد السيد في متى 6: 31-34 أن يعلّمنا الكسل والإهمال والإسراف؟ كلا على الاطلاق، وإنما يوصينا أن لا نشغل قلوبنا بهموم هذه الحياة, وهذا ما نستفيده من فصول شتى في العهدين القديم والجديد, تأمل مزمور 127: 2 باطل هو لكم أن تبكروا إلى القيام، مؤخّرين الجلوس، آكلين خبز الأتعاب, لكنه يعطي حبيبه نوماً ومزمور 5: 22 ألقِ على الرب همّك فهو يعولك, لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد , وفيلبي 4: 6 لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتُعلَم طلباتكم لدى الله ,
ثم إن 2تسالونيكي 3: 12 لا يعلّم الطمع أو البخل أو اشتهاء الأشياء الأرضية، بل يحرّض المؤمنين على الاجتهاد في العمل حتى لا تحل الفاقة بهم، فيصبحوا عالةً على الآخرين, فنرى أن هاتين الآيتين تتكلمان عن وجهين لموضوع واحد, فيسوع ينهى عن اشتهاء الأشياء الأرضية والسعي وراءها، وبولس ينهى عن التقاعد والكسل,
ونجد توحيداً لهاتين الوجهتين في تعليم بولس في 1 كورنثوس 7: 29-31, فعلى المؤمنين أن يعملوا باجتهاد دون أن يكونوا مستعبَدين لأشغالهم, فعلى كل مؤمن أن يتمم عمله بحسب الدعوة التي تلقّاها من الله، ذاكراً أن وطنه في السموات (فيلبي 3: 20 و21), فعلينا إذن أن نعمل لاكتساب معيشتنا، وأن نتذكر في الوقت نفسه أن الله يمدّنا بكل ما نحتاج إليه, ويجب على كل مؤمن أن يرى صدق هذين المبدأين في حياته العملية,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 7: 14 ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه , وورد في 11: 29 و30 احملوا نيري عليكم وتعلَّموا منّي، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم، لأن نيري هيِّن وحملي خفيف , وفي هذا تناقض ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) المسيحية منزهة عن الفرائض الثقيلة، لأنها ديانة روحية لا تقوم بالأعمال الخارجية,
(2) إنها مناسبة للعقل والقلب والروح والأخلاق الشريفة,
(3) إنها تعلم الإنسان أن يترك الخطية والشرور، التي هي سبب البلايا, فهي صعبة بالنظر إلى قداستها، فالمسيحي يصلب الجسد وشهواته, ومع ذلك فهي خفيفة سهلة لأن الباعث الأصلي فيها هو المحبة, فإذا وُجدت المحبة في المسيحي رأى لذةً في طاعة الأوامر وترك الخطايا بسهولة، وهان على المحب كل شيء , فنير المسيح هيّن وخفيف، وهذا لا ينافي أن الطريق المؤدي إلى الحياة هو صعب وكرب، ولاسيما على الذين فضّلوا محبة العالم وانغمسوا في الرذائل,
اعتراض على متى 8
انظر تعليقنا على مرقس 4: 35-41
قال المعترض الغير مؤمن: يقول متى 8: 5-13 إن قائد المئة جاء إلى المسيح بنفسه، بينما يذكر لوقا 7: 1-10 أن قائد المئة أرسل شيوخ اليهود يحملون رسالته للمسيح, وهذا تناقض ,
وللرد نقول بنعمة الله : يقول متى إن قائد المئة طلب من المسيح، لأنه طلب ذلك بواسطة شيوخ اليهود، ولا مانع من أن يكون قد جاء للمسيح بعد أن أرسل شيوخ اليهود، فلما أبطأوا عليه توجَّه بذاته, فاقتصر متى على ذكر قائد المئة لأنه الطالب الحقيقي، أما لوقا فذكر ما كان من مساعي أئمة اليهود، لأنهم أول من فاتح المسيح في شفاء الغلام, ومن الأمور القانونية المقرّرة أن ما يفعله الإنسان بواسطة غيره يُنسب إليه فعله، لأنه يكون السبب فيه، وما يعمله الوكيل يُنسب إلى موكله, كما أن تلاميذ المسيح عمَّدوا الناس، وعُزي العماد للمسيح (يوحنا 4: 1),
قال المعترض الغير مؤمن: وصف المسيح نفسه دائماً بأنه ابن الانسان , جاء هذا اللقب عنه في متى 30 مرة، وفي مرقس 15 مرة، وفي لوقا 25 مرة، وفي يوحنا 12 مرة, وقد قال المسيح (له المجد): للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار, وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه (متى 8: 20), وهذا يعني أن المسيح كان إنساناً عادياً، وليس هو الله ,
وللرد نقول بنعمة الله : قال المسيح (له المجد) عن نفسه إنه ابن الإنسان ليس لأنه كان إنساناً عادياً، لكن لأنه اتخذ جسد إنسان، وكان في هذا الجسد رفيقاً للإنسان ومحباً ومعلماً له، كما سيكون فيما بعد ملكاً على الإنسان, ومما يدل على أن ابن الإنسان هو ابن الله الأزلي، أنه عُرف بهذا اللقب من قبل ميلاده, فقد ظهر لدانيال النبي في هيئة ابن الإنسان سنة 500 ق,م, فقال دانيال: كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سُحب السماء مثل ابن إنسان، أتى وجاء إلى قديم الأيام، فقرَّبوه قدامه، فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعَّبد له كل الشعوب والأمم والألسنة, سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض (دانيال 7: 13 و14),
قال دانيال النبي عن المسيح إنه ابن إنسان ، ولم يقل إنه ابن الإنسان بأل التعريف، لأن النبي لم ينظر إلى المسيح في علاقته مع الناس بل كان ينظر إليه من حيث المظهر العام الذي كان يبدو به في الرؤيا، والذي كان عتيداً أن يبدو به بالتجسد، في يوم من الأيام,
وقوله قديم الأيام هو الله في أزليته، وابن الإنسان هو أقنوم الابن في المركز الناسوتي الذي كان عتيداً أن يأخذه، ولذلك اقتضى الأمر، وهذا هو مركزه أن يُقال عنه إنه اقترب إلى قديم الأيام للتمييز بين الابن في ناسوته الحادث، والله أو اللاهوت في أزليته التي لا بدء لها، وهذه نبوّة عن مجيء المسيح في آخر الدهور، لتسلُّم زمام الملك في العالم, ومن البديهي أنه وحده هو الذي يحقّ له أن يقوم بهذه المهمّة، بوصفه ابن الإنسان الظاهر في الجسد، لأنه بهذا الوصف هو القائم بإتمام مشيئة الله بين الناس، ولأن محاسبة الله (في جوهره غير المدرَك) للناس، تكون موضع اعتراض منهم، لانه تعالى من هذه الناحية لم يشاركهم في طبيعتهم البشرية التي يتعرضون بسببها للخطأ، لكن لا يكون هناك اعتراض إذا قام بهذه المهمة الله المتأنس أو ابن الإنسان, وقد أشار له المجد إلى هذه الحقيقة فقال: لأن الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن، وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً، لأنه ابن الإنسان (يوحنا 5: 22 و27),
فضلاً عن ذلك، فقد أطلق السيد المسيح على نفسه لقب ابن الإنسان بمعنى ابن الله مرات متعددة أمام رؤساء اليهود الذين اجتمعوا لمحاكمته، فقد قال لهم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء (متى 26: 64) مشيراً بذلك إلى أنه المقصود بابن الإنسان الذي تتعبد له كل الشعوب، والذي تنبأ عنه دانيال النبي من قبل, ومما يدل على أن رؤساء الكهنة فهموا قَصْد المسيح من إطلاق لقب ابن الإنسان على نفسه، أنهم عندما سمعوا قوله هذا، مزَّق رئيس الكهنة ثيابه قائلاً: قد جدّف , وهذا دليل واضح على أن المراد ب- ابن الإنسان هو ابن الله بعينه,
ويقصد بالاصطلاح ابن الله الله مُعلَناً في كمال ذاته وصفاته, والاصطلاح ابن الإنسان يراد به الإنسان معلَناً في كمال الصفات التي خلقه بها الله أولاً, وبما أن الإنسان خُلق في أول الأمر على صورة الله في البر وقداسة الحق، لذلك فإن ابن الإنسان أو الإنسان الكامل أو المسيح يكون هو صورة الله في الإنسان، أو هو الله ظاهراً في الإنسان، لأن صورة الله ليست في الواقع سوى ذاته، إذ أنه ليس له صورة بعيداً عنها, وقد تبدو هذه الحقيقة غريبة في نظر بعض الناس، لكنها تتفق مع الحق الإلهي كل الاتفاق, ويُراد بالاصطلاح ابن الله أقنوم الابن في علاقته مع الله أو اللاهوت، كما يُراد بالاصطلاح ابن الإنسان أقنوم الابن في علاقته مع الإنسان, فإذا ذكرنا أن الإنسان في نظرنا ليس هو الهيكل البشري الخارجي، بل هو مجموعة صفات الإنسانية السامية (لأننا نقول عمَّن تتوافر فيه هذه الصفات إنه إنسان أو الإنسان ، وعمَّن لا تتوافر فيه هذه الصفات إنه ليس إنساناً )، اتضح لنا أن الشخص الجدير بأن يُدعى الإنسان أو الإنسان الكامل، أو ابن الإنسان ، هو المسيح وحده، وذلك للأسباب الآتية:
(أ) لم يُولد المسيح بالتناسل الطبيعي مثل الناس، بل وُلد من عذراء، فلا يصح أن يُقال عنه إنه ابن آدم مثل أحد الناس, وإن كان لا بد من إسناد شخصه من جهة الناسوت إلى بشر كابن، فإنه لا يُدعى ابن آدم بل ابن مريم أو نسل المرأة (تكوين 3: 15),
(ب) لا يُقصد بكلمة الإنسان الرجل وحده، بل يُقصد بها الرجل والمرأة على السواء، لأنها تدل على الإنسان عامة، أو ابن الإنسانية وممثّلها، بوصفه المتأنس منها ليأخذ بناصرها,
(ج) أخيراً نقول: كما أن هناك أبناء كثيرين لله، ولكن المسيح وحده هو ابن الله ، كذلك هناك أبناء كثيرون للناس، لكن المسيح وحده هو ابن الإنسان , ولذلك هو وحده أطلق هذا اللقب على نفسه, وتدل كل القرائن على أنه قصد به المعلِن لله أو الله معلَناً ، لأنه أعلن أنه بوصفه ابن الإنسان يغفر الخطايا (مرقس 2: 7) ويمنح الخلاص والسلام (لوقا 7: 50) ويعطي الأموات بالخطية حياة روحية أبدية (يوحنا 5: 25) ويجازي كل واحد حسب أعماله (متى 16: 27) وغير ذلك من الأعمال التي لا يقوم بها إلا الله, ومما يثبت صدق هذه الحقيقة أن اليهود استنتجوا من كلام المسيح أن للقب ابن الإنسان معنى غير المعنى التي يتبادر إلى الذهن، فسألوه مرة في حيرة: من هو هذا ابن الإنسان!؟ (يوحنا 12: 34), وما كان للحيرة أن تجد مجالاً إلى نفوسهم، لو كانوا قد علموا أن ابن الإنسان هو بعينه ابن الله فهو رب السبت أيضاً (مرقس 2: 28),
قال المعترض الغير مؤمن: في إنجيل متى 8: 18-22 طلب كاتبٌ أن يتبع المسيح، واستأذن رجل آخر لدفن أبيه، ثم جاء ذكر معجزات باهرة أخرى، ثم قصة التجلي في أصحاح 17, أما لوقا فذكر الطلب والاستئذان في أصحاح 9 بعد قصة التجلي ,
وللرد نقول بنعمة الله : راعى كل من متى ولوقا ترتيباً في ذكر معجزات المسيح وتعليمه حسب ما ساقه إليهما الروح القدس، فراعى أحدهما الزمان، والآخر المكان كما يُعلم من سياق الكلام, نعم لو أثبت أحدهما شيئاً ونفاه الآخر لعُّد تناقضاً,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 8 أولاً شفاء الأبرص بعد الموعظة على الجبل، ثم شفاء عبد قائد المئة بعد دخوله كفر ناحوم، ثم شفاء حماة بطرس, ولكن ذكر في لوقا 4 أولاً شفاء حماة بطرس، ثم في لوقا 5 شفاء الأبرص، ثم في لوقا 7 شفاء عبد قائد المئة, فأحد البيانين غلط ,
وللرد نقول بنعمة الله : لو ذكر لوقا الآيات في مكان واحد لكان الاعتراض معقولا، ولكنه ذكرها في محال متنوعة لمناسبات مختلفة, ولا يخفى أن بعض الرسل كان يراعي في سرد معجزات المسيح الترتيب التاريخي، والآخر يراعي المكان، والآخر مناسبات الأقوال، بما لا يخرج عن التوافق والتطابق, وكان البعض يراعي نتائج المعجزة وتأثيرها على السامعين وما ترتَّب عليها من هداية الأنفس، فيقدمها على غيرها من المعجزات,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 8: 28 أنه لما جاء المسيح إلى العبر إلى كورة الجرجسيين استقبله مجنونان خارجان من القبور، وورد في مرقس 5: 2 ولوقا 8: 27 أنه استقبله من القبور إنسان به روح نجس, واحد أو اثنان؟ ,
وللرد نقول بنعمة الله : اقتصر مرقس ولوقا على ذكر المجنون الذي كان أشد هياجاً وعربدة, ولنفرض أن شخصين توجها إلى مستشفى الأمراض العقلية وبعد خروجهما رويا ما شاهداه، ونسجا على منوال متى ولوقا بأن اقتصر أحدهما على ذكر واحد وصرف النظر عن الآخر، بينما الراوي الثاني ذكر الاثنين, فهل يجوز أن نقول إن كلامهما متناقض؟ كلا! لكن لو قال أحدهما إنه لم يكن هناك غير مجنون واحد لكان تناقضاً,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 8: 31 و32 أن المسيح أهلك قطيع خنازير سمح للشيطان بدخوله فيه، فاندفع إلى البحر ومات, لماذا يؤذي المسيح أصحاب الخنازير بإهلاك الثروة الحيوانية؟
وللرد نقول بنعمة الله : (1) للمسيح الحق أن يستخدم الوسائل الرمزية لإعلان حقه, لقد لعن شجرة تين فيبست (متى 21: 20) ليدين النفاق, وهنا أدان النجاسة, فقد اعتبر الناس في ذلك العصر الخنازير رمزاً للشهوات والفساد، كما نعتبر الثعلب في زمننا رمزاً للمكر والخداع, وقد نظر اليهود للخنازير نظرة احتقار، بسبب الضرر الصحي من أكل لحومها، والضرر الطقسي حسبما علَّمت شريعة موسى، ثم لشراستها، وكانوا يشّبهون السكير المتمرّغ في الوحل بالخنزير القذر,
(2) لما وجدت الخنازير نفسها تحت سلطة الشياطين اندفعت للهلاك تحت تأثير الفزع والخوف، فأهلكت نفسها, فلا يكون المسيح هو الذي أهلكها,
قال المعترض الغير مؤمن: نقرأ في متى 9 قصة المجنون الأخرس، وفي متى 10 إعطاء المسيح تلاميذه قدرة على إخراج الشياطين وشفاء المرضى وإرسالهم، ثم ذكر آيات أخرى، وذكر قصة التجلي في أصحاح 17 , وكتب لوقا أولاً في أصحاح 9 إعطاء المسيح لتلاميذه قدرة على المعجزات، ثم قصة التجلي, وفي هذا الأصحاح وفي أصحاح 10 وأول أصحاح 11 ذكر معجزات آخرى، ثم ذكر معجزة المجنون الأخرس ,
وللرد نقول بنعمة الله : راعى أحد البشيرين المعجزات التي صنعها المسيح لليهود، فذكرها أولاً، وأخّر الأقوال التعليمية عنها كما فعل متى, والآخر قدم التعاليم والخطابات الإلهية على المعجزات, وبصرف النظر عن ذلك، فالمسيح صنع معجزات كثيرة قبل التجلي وبعده، وأخرج شياطين من أكثر من مجنون أخرس,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 9: 9 أن الذي دعاه المسيح عند مكان الجباية هو متى، وورد في مرقس 2: 14 أن اسمه لاوي بن حلفي، وورد في لوقا 5: 27 أن اسمه لاوي ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) تدل القرائن التي ذكرها كل منهم على أن الشخص واحد، فكل منهم ذكر وظيفته المشهور بها، وقال إنه كان جالساً عند مكان الجباية، وإن المسيح دعاه ليتبعه، واختاره ليكون من التلاميذ فترك كل شيء وتبعه,
(2) كثيراً ما يُسمى الشخص باسمين، فبطرس يُسمَّى سمعان ويُسمَّى صفا, وقد غيَّر شاول الطرسوسي اسمه إلى بولس عندما صار مسيحياً, والمعهود بيننا أنه إذا انتقل الإنسان من حالة إلى أخرى غيّر اسمه إشارة إلى رفض الحالة السابقة,
(3) اقتصر بعض التلاميذ على ذكر اسمه بدون ذكر اسم أبيه، اكتفاءً بذكر صناعته وظروفه الخصوصية، وهي هنا قوله إنه كان جالساً عند مكان الجباية, ثم أن حلفى أبا يعقوب هو غير والد لاوي,
اعتراض على متى 9: 13
انظر تعليقنا على مرقس 2: 17
قال المعترض الغير مؤمن: بين متى 9: 18 ومرقس 5: 23 في قصة ابنة الرئيس اختلاف، فالأول قال إن الرئيس قال للمسيح: ابنتي ماتت، والثاني قال إن ابنتي على آخر نَسَمة ,
وللرد نقول بنعمة الله : قال إنجيل متى إن يايرس قال للمسيح إنها ماتت , ولكن إنجيل مرقس يقول إن يايرس قال: ابنتي الصغيرة على آخر نسمة , ويصف إنجيل لوقا حالتها بأنها كانت في حال الموت (لوقا 8: 42) والحقيقة هي أنه عندما ترك يايرس بيته كانت على وشك الموت، وعندما وصل إلى المكان الذي كان المسيح فيه لم يكن يدري إن كانت ابنته حية أو ماتت, فوصفها مرة بأنها ماتت ومرة أخرى بأنها على وشك الموت، فقال: ابنتي الصغيرة على آخر نسمة, ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتُشفى فتحيا , وكلمة لتشفى لأنها مريضة، وكلمة لتحيا لأنها ماتت, فالرجل لم يكن متأكداً من حالة ابنته، فتحدث مرة عن خطورة حالتها وطلب شفاءها، ومرة أخرى تحدث عن موتها,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في إنجيل متى 10: 2-4 : وأما أسماء الاثني عشر رسولاً فهي: الأول سمعان الذي يُقال له بطرسوأندراوس أخوه, يعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه, فيلبّس وبرثلماوس, توما ومتى العشار, يعقوب بن حلفى ولباوس الملقب تداوس, سمعان القانوي ويهوذا الاسخريوطي الذي أسلمه , ولو صحّ أن المسيح هو خاتمة الأنبياء والمرسلين فلا يكون تلاميذه أنبياء، والأمر ليس كذلك عندهم، لأن التلاميذ أفضل من موسى وسائر الأنبياء الإسرائيليين في زعمهم, ويكفي شاهداً في فضلهم ملاحظة حال يهوذا الاسخريوطي الذي كان واحداً من هؤلاء الحضرات، ممتلئاً بالروح القدس! ,
وللرد نقول بنعمة الله : تحققت كل نبوات الأنبياء الذين تنبأوا عن مولد المسيح وزمانه ومكانه وأعماله ومعجزاته وآلامه وصلبه وقيامته وصعوده, تمّت كلها بظهور المسيح الذي اتخذ التلاميذ رسلاً له، لينشروا بشرى الخلاص، فكانوا نوراً للناس، والمسيح قال لهم: مَنْ قبِلَكم فقد قَبِلَني، ومَنْ رفضكم فقد رفضني , وبذلك خُتمت النبوة،ولم يأت نبي ولا ولي بعد المسيح ورسله, بل إن المسيح حذر تلاميذه ممن يدَّعي النبوة والرسالة بعده، وقال لهم: يأتي بعدي الأنبياء الكذبة (انظر متى 24: 11),
أما قوله: ويكفي شاهداً في فضلهم ملاحظة حال يهوذا الاسخريوطي , قلنا: وجود منافق في زمرة أبرار لا يقدح في عدالتهم ونزاهتهم وصلاحهم، والمسيح كان يعرف حقيقة يهوذا، ولكنه قال: دع الزوان ينمو مع الحنطة إلى أن يأتي وقت الحصاد، فيجمع الزوان للنار ويُدخِل الحنطة في المخازن, فكذلك الحال مع كنيسة الله، ففي أعضائها البر والفاجر والصالح والطالح إلى أن يأتي يوم الفصل, ومع ذلك فلما أظهر يهوذا الخيانة نخسه ضميره على خيانته، وتأكد أنه أسلم القدوس لأجل الأثمة، فلم يسعه سوى الانتحار,
قال المعترض الغير مؤمن: الذي يراجع متى 10: 2-4 و مرقس 3: 16-19 ولوقا 6: 13-16 يجد أنهم اتفقوا في أسماء 11 من التلاميذ، هم بطرس وأندراوس ويعقوب بن زبدي ويوحنا وفيلبس وبرثولماوس ومتى ويعقوب بن حلفى وسمعان ويهوذا الاسخريوطي، واختلفوا في اسم الثاني عشر, قال متى لباوس الملقب تداوس وقال مرقس تداوس وقال لوقا يهوذا أخو يعقوب ,
وللرد نقول بنعمة الله : ذكر متى لباوس وسمعان القانوي ولكن لوقا أورد بدلاً من هذين يهوذا أخا يعقوب وسمعان الغيور, على أن سمعان الغيور هو نفسه سمعان القانوي, وكلمة قانوي هي اللفظة العبرانية لكلمة غيور , وإذ ذاك تزول أول عقدة,
ولا بد أن يكون لباوس هو يهوذا أخا يعقوب، إذ يظهر أنه كان له أكثر من اسم واحد, فعلاوة على اسم يهوذا الذي كان يُعرف به وقتئذ، كانيُطلق عليه أحياناً اسم لباوس وتداوس، ومعناهما واحد, وكانت العادة في ذلك العصر تسمية الشخص باسمين، كما نرى في مسألة بطرس: فاسمه الأصلي سمعان، ودعاه المسيح صفا وبطرس, فإظهار تناقض في قائمة أسماء الرسل لا ينشأ إلا عن تسرُّع المعترض,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 10: 5 و6 أن المسيح أوصى تلاميذه الاثني عشر أن يبشّروا خراف بيت إسرائيل الضالة, وفي متى 15: 24 قال: لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة , مع أن المسيح قال في مرقس 16: 15 اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها , وهذا تناقض ,
وللرد نقول بنعمة الله : القانون الذي وضعه المسيح لرسله هو أن يكرزوا أولاً لبني إسرائيل، وبعدئذ يكرزون للجميع, والكتاب ناطق من أوله إلى آخره بأن الواجب العناية بأهل بيت الإيمان أولاً، ثم التبشير لغيرهم, فلا تناقض، وإنما فيه تقديم بيت إسرائيل على غيرهم,
والسبب في إعطاء الأولوية لبني إسرائيل هو أن التلاميذ كانوا في رحلة تبشيرية تدريبية، فكان من الحكمة إرسالهم إلى من يعرفون لغتهم وعاداتهم ويتفقون معهم في معتقداتهم, وعلى هذا كان البدء في خدمتهم بين اليهود، الذين يَسْهل على التلاميذ الاتصال بهم, ولما أكمل تلاميذ المسيح تدريبهم كلفهم المسيح بالمهمة الكاملة وهي تبشير العالم أجمع,
وهناك حكمة أن نبدأ بمن نعرفه، دون أن ننتهي به، بل نمتد منه إلى من لا نعرفه، ولذلك كانت نصيحة المسيح لتلاميذه قبل صعوده: ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً، في أورشليم، وفي كل اليهودية، والسامرة، وإلى أقصى الأرض (أعمال 1: 8),
لا تناقض بين الأمرين، بل الثانيمبنيّ على الأول ويكمله, نبدأ ببني إسرائيل المعروفين، ونكمل الكرازة للأمم غير المعروفين,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في إنجيل متى 10: 10 ولوقا 9: 3 أن المسيح منع تلاميذه عن أخذ العصا، وجاء في مرقس 6: 8 أنه سمح لهم بأخذ العصا ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) لنورد عبارة البشير متى من عدد 9 ليظهر المعنى, قال: لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم (10) ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا , ولنورد عبارة مرقس من عدد 8 لنفهم الحقيقة من سياق الكلام: وأوصاهم أن لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصا فقط، لا مزوداً ولا خبزاً ولا نحاساً في المنطقة، بل يكونوا مشدودين بنعال ولا يلبسوا ثوبين ,
(2) الصعوبة التي تظهر عند مقابلة هذين الفصلين هي أن المسيح حسب ما جاء في متى منع التلاميذ من أخذ عصا، بينما الوارد في مرقس يفيد أنه أذن لهم بأخذ العصا, وأيضاً متى يرى أنه أوصاهم أن لا يأخذوا أحذية، بينما في مرقس سمح لهم أن يلبسوا أحذية, على أن التوفيق بين هاتين العبارتين يأتي من مقابلة النهيين المستعملين فيهما, فالنهي الوارد في متى هو قوله لا تقتنوا أما النهي الوارد في مرقس فهو أن لا يحملوا بمعنى أننا نرى في متى أنه ينهاهم عن شراء أشياء جديدة، أما في مرقس فيريهم ما يجب أن يأخذوه في سفرتهم, فكأنه بحسب الوارد في مرقس يقول لهم: اذهبوا كما أنتم أو بما معكم الآن، بمعنى أنه كانت معهم عصا فسَمَح لهم بأخذها، ولكن لم يسمح لهم بشراء أخرى, وكانوا أيضاً لابسين أحذية فأمرهم أن يكتفوا بها ولا يشتروا غيرها - ومن هنا نرى أن الفصلين لا يتناقضان بل يوضح أحدهما الآخر,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد قول المسيح في متى 10: 19 و20 فمتى أسلموكم، فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، لأنكم تُعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم , وورد في لوقا 12: 11 و12 ومتى قدموكم إلى المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أو بما تحتجون أو بما تقولون، لأن الروح القدس يعلّمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه , وكذلك ورد هذا القول في مرقس 13: 11 , فالمسيح وعد لمريديه أن الشيء الذي يقولونه عند الحكام يكون بإلهام الروح القدس، وهذا غلط, فورد في الأعمال 23: 1-5 فتفرَّس بولس في المجمع وقال أيها الرجال الإخوة، إني بكل ضمير صالح قد عشت لله إلى هذا اليوم فأمر حنانيا رئيس الكهنة الواقفين عنده أن يضربوه على فمه، حينئذ قال له بولس: سيضربك الله أيها الحائط المبيض, أفأنت جالس تحكم عليّ حسب الناموس، وأنت تأمر بضربي مخالفاً للناموس؟ فقال الواقفون: أتشتم رئيس كهنة الله؟ فقال بولس: لم أكن أعرف أيها الإخوة أنه رئيس كهنة، لأنه مكتوب: رئيس شعبك لا تقل فيه سوءاً ,
فلو كان القول المذكور صادقاً لما غلط الرسول بولس, فغلط بولس دليل على عدم صدق القول المذكور, هل يغلط الروح القدس؟ ,
وللرد نقول بنعمة الله : من تتبع تاريخ الرسل ظهر له أنهم جعلوا كل اعتمادهم على الله في وقت الاضطهاد, فلم يكن الرسل أثرياء ولا أقوياء، وإنما كان الروح القدس يؤازرهم، فكانت أسلحتهم روحية، وهي الحث على التوبة والإيمان والمحبة والقداسة والفضيلة والتقوى, ولو لم يكن الروح القدس حالاً فيهم لما تيسَّر لهم هداية الألوف إلى الحق، فقد كان الروح القدس هو الناطق على ألسنتهم والعامل فيهم والمقوي لهم، وهو الذي أنجحهم وجرَّأهم على الوقوف أمام الملوك، وقوَّاهم على احتمال الشدائد والضيقات، بل هو الذي أفرح أفئدتهم وقت الاضطهادات فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه (أعمال 5: 41),
انظر تعليقنا على أعمال 23: 5
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 10: 23 ومتى طردوكم من هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى، فإني الحق أقول لكم: لا تكمّلون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان قال المسيح (له المجد) هذا لتلاميذه وهو يرسلهم للكرازة للمدن الإسرائيلية, ولكن هذا منقوض بقول المسيح في متى 24: 14 ويُكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادةً لجميع الأمم, ثم يأتي المنتهى ,
وللرد نقول بنعمة الله : هناك عدة تفسيرات لما يظهر أنه تناقض:
1 - يقصد المسيح في متى 10: 23 أنه في هروب التلاميذ من مدينة إلى أخرى لا يكونون قد زاروا كل مدن إسرائيل حتى تخرب أورشليم ويبطل النظام اليهودي - فيكون المسيح قد جاء بالعقاب والدمار على المدينة التي صلبته,
2 - مجيء ابن الإنسان في متى 10: 23 له عدة معانٍ: انتصار قضية المسيح، أو خراب أورشليم، أو حلول الروح القدس يوم الخمسين، أو تثبيت دعائم كنيسته ونظامه في العالم,
3 - يقصد المسيح أنهم قبل أن يزوروا كل مدن إسرائيل كارزين بالإنجيل يقوم المسيح من قبره، ويأتي إلى تلاميذه بالسلام والفرح,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 10: 34 أن المسيح قال: لا تظنّوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض, ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً , وجاء في لوقا 12: 51 أن المسيح قال: أتظنون أني جئت لأعطي سلاماً على الأرض؟ كلا أقول لكم! بل انقساماً، لأنه يكون من الآن خمسة في بيت منقسمين، ثلاثة على اثنين واثنان على ثلاثة , وهذا يتناقض مع قوله: سلاماً أترك لكم سلامي أعطيكم (يوحنا 14: 27) ,
وللرد نقول بنعمة الله : لم تكن الانقسامات هي هدف المسيح، لكنها كانت النتيجة الواقعية التي أعقبت ظهوره بين البشر, وبما أن إرادة الله الصالحة كانت تعمل في عالم مختل النظام، وكانت ضد إرادة الإنسان الشرير، فقد كانت النتيجة الحتميّة لذلك حدوث التفرقة والانقسام,
عندما آمن البعض بالمسيح رفضهم أفراد عائلتهم، فنشأ الانقسام عن ذلك, وحيثما كرز المسيحيون بأخبار إنجيله المفرحة قامت الاضطهادات ضدهم، فإن المسيح أرسلهم كحملان وسط ذئاب,
والمقصود أن من يتبع المسيح يجب أن يقف إلى جانب المسيح، وهذا يعني أنه سيعادي من يرفضون المسيح, لقد أبغض الخطاة المسيح، ولا بد أنهم يبغضون تلاميذ المسيح، فإن صاحب العين المريضة يكره النور, إنهم الذئاب الذين يريدون هلاك الغنم!
والسيف المقصود هنا هو سيف المسيح على الشيطان، أو سيف الاضطهاد من أعداء المسيح يهاجم تلاميذ المسيح,
على أن أولاد الله يجدون سلام الله الكامل وسط اضطهاد الأعداء (يوحنا 14: 27 و16: 33),
اعتراض على متى 11: 3
انظر تعليقنا على متى 3: 14
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 11: 10 وفي مرقس 1: 2 وفي لوقا 7: 27 أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك وهو مستشهد به من ملاخي 3: 1 هأنذا أرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي , فقوله أمام وجهك لا يوجد في كلام ملاخي, وفي ملاخي بضمير المتكلم، بينما في الأناجيل بصيغة الخطاب ,
وللرد نقول بنعمة الله : لو تأمل المنصف في عبارة ملاخي لم يجد فرقاً، فالنبي قصد أن الله سيرسل أمام المسيح من يهيئ الطريق، فاقتبس الرسل عبارة النبي وأن المقصود منها المسيح, على أنه يجوز النقل بالمعنى, وقد ذكر البشيرون عبارة النبي بالمعنى، وهم مساوون لدرجته في الوحي والإرشاد وفهم معاني كلام الله, (انظر تعليقنا على متى 2: 23),
اعتراض على متى 11: 14
انظر تعليقنا على متى 17: 11 ولوقا 1: 17 ويوحنا 1: 20
اعتراض على متى 11: 18
انظر تعليقنا على مرقس 1: 6
اعتراض على متى 11: 29 و30
انظر تعليقنا على متى 7: 14
اعتراض على متى 12: 3
انظر تعليقنا على مرقس 2: 25 و26
قال المعترض الغير مؤمن: يوجد تناقض بين قول المسيح في متى 12: 4 إنه يمكث في القبر ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وبين الحساب المعمول بين موته وقيامته على أساس الاعتقاد أنه صُلب بعد ظهر يوم الجمعة وأُقيم صباح الأحد, فإذا حسبنا مدة بقاء جسد المسيح في القبر على هذا الأساس، نحكم بوجوده في القبر ساعات قليلة من ظهر الجمعة، ثم السبت التالي بليلته، ثم جزءاً من يوم الأحد وهو الكائن بين غروب الشمس يوم السبت وبدء يوم القيامة, وعلى هذا يكون جسد المسيح قد بقي في القبر جزءاً من يوم الجمعة، وكل يوم السبت، وجزءاً من يوم الأحد ,
وللرد نقول بنعمة الله : نلفت النظر لثلاث حقائق: (1) كان اليهود كسائر الشرقيين يعتبرون بدء اليوم من غروب الشمس, (2) وكانت عادتهم أن يطلقوا الكل على الجزء، فيُطلق اليوم على جزئه, (3) ومعنى اليوم عندهم هو المساء والصباح، أو الليل والنهار, فمقدار الزمان المعبَّر عنه هنا بثلاثة أيام وثلاث ليال (الذي كان في الحقيقة يوماً كاملاً، وجزءاً من يومين آخرين، وليلتين كاملتين) سُمِّي في أستير 4: 16 بثلاثة أيام وثلاث ليالٍ, لا تأكلوا ولا تشربوا ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً ثم ورد في 5: 1 وفي اليوم الثالث وقفت أستير في دار بيت الملك الداخلية وحصل الفرج في هذا اليوم, ومع ذلك فقيل عن هذه المدة ثلاثة أيام,
وورد في 1صموئيل 30: 2 لأنه لم يأكل خبزاً ولا شرب ماء في ثلاثة أيام وثلاث ليال , والحقيقة هي أن المدة لم تكن ثلاثة أيام بل أقل من ذلك، فإنه في اليوم الثالث أكل, وكذلك ورد في 2أخبار 10: 5 ارجعوا إليّ بعد ثلاثة أيام ثم أورد في آية 12 فجاء الشعب إلى يربعام في اليوم الثالث فلم تمض ثلاثة أيام كاملة بل مضى جزء منها، وفهم السامعون قصده, وورد في تكوين 42: 17 و18 إطلاق ثلاثة أيام على جزءٍ صغيرٍ منها، لأن يوسف كلّم إخوته في أواخر اليوم الأول، واعتُبر يوماً كاملاً، ثم مضى يوم واحد وكلمهم في اليوم الذي بعده، فاعتبروا ذلك ثلاثة أيام, وإذا توفي إنسان قبل غروب الشمس بنصف ساعة حُسب له هذا اليوم كاملاً، مع أنه يكون قد مضى النهار بتمامه ولم يبق منه سوى نصف ساعة فقط,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 12: 31 و32 لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يُغفَر للناس, وأما من قال كلمةً على الروح القدس فلن يُغفر له، لا في هذا العالم، ولا في الآتي , ولكن جاء في أعمال 13: 39 وبهذا يتبرَّر كل من يؤمن مِنْ كل ما لم تقدروا أن تتبرروا منه بناموس موسى , فالمسيح يتكلم عن وجود خطية لا غفران لها، مع ورود فصول شتى في الكتاب تثبت المعنى المتضمن في أعمال 13: 39 إن كل الذين يؤمنون بالمسيح ينالون مغفرة لكل خطاياهم ,
وللرد نقولبنعمة الله : وَعْد الإنجيل بوجود غفران لجميع الخطايا وعدٌ شامل بحيث لا يمكن استثناء خطية واحدة، فالشرط المقدَّم هو هذا: آمن بالمسيح تنل غفراناً لكل خطاياك بلا استثناء ,
غير أن الخطية التي لا غفران لها (حسب قول المسيح الوارد هنا) هي الخطية التي تجعل صاحبها لا يؤمن بالمسيح ولا يريد أن يُقبِل إليه, والرب يصف هذه الخطية بأنها تجديف على الروح القدس , ولا يخفى أن الروح القدس هو الأقنوم الإلهي الذي يُجري فينا التجديد، فمن يجدّف على الروح القدس لا يُفسح المجال لعمله فيه, فلا يمكن إذاً أن يؤمن بالمسيح، وبالتالي لا يمكن أن ينال غفراناً لخطاياه, والمسيح يقول احذر من مقاومة ذلك الأقنوم الذي يسعى في تجديدك، لأنك إذا لم تتجدد بالروح القدس لا تنال غفراناً لخطاياك, وفي هذه الحال لا يمكن أن تتوب, ولا مغفرة بغير توبة,
فنرى مما تقدم أن الآيتين غير متناقضتين، فالمعنى المتضمن في متى 12: 31 و32 لا ينفي أن كل من آمن بيسوع يجد مغفرة تامة شاملة لكل خطاياه, ثم نجد خطية التجديف على الروح القدس موضَّحة في مرقس 3: 22-30 حيث نرى أعداء المسيح ينسبون إلى الشيطان تلك القوة العجيبة المجيدة التي شهدت ضمائرهم أنها من الله, هذه هي الخطية التي قال عنها المسيح إنها تجديف على الروح القدس، وإن صاحبها ليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستوجب دينونة أبدية, هذه العبارة إذا ترجمناها حرفياً من الأصل اليوناني يكون نصُّها هكذا: مقيَّد بخطيةٍ أبدية , وخطية كهذه تمنع التوبة والإيمان بالمسيح,
وأهم نقطة في هذا البحث هي أن كل من يتوب عن خطاياه ويلتجئ إلى المسيح ملتمساً المغفرة لا يمكن أن يكون قد وقع في خطية التجديف على الروح القدس، إذ قال المسيح (له المجد) في يوحنا 6: 37 من يُقبِل إليَّ لا أخرجه خارجاً ,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 12: 35 الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات , فقال هورن إن لفظة القلب إلحاقية، وإنها مأخوذة من لوقا 6: 45 ,
وللرد نقول بنعمة الله : قابل علماء المسيحيين مئات من نسخ الإنجيل بعضها ببعض، فوجدوا كلمة القلب مدوَّنة في كثير من هذه النسخ, ولكن ذهب بعضهم إلى أنها وردت تفسيراً للكنز، فإن كنز الإنسان هو قلبه، وعلى هذا تكون من المدرج الذي يراد به التفسير لا غير, وعلى كل حال فهي قراءة صحيحة,
اعتراض على متى 12: 39 و40
انظر تعليقنا على متى 12: 4
قال المعترض الغير مؤمن: يُعلَم من متى 15: 22 أن المرأة التي استغاثت بالمسيح لشفاء ابنتها كانت كنعانية، وفي إنجيل مرقس 7: 26 إنها كانت أممية، وجنسها فينيقية سورية ,
وللرد نقول بنعمة الله : كانت البلاد التي تشتمل على صور وصيدا في يد الكنعانيين، وكانت تسمى كنعان, عِلْماً بأن الفينيقيين تناسلوا من الكنعانيين, وكانت البلاد التي تشتمل على صور تُسمى فينيقية أو فينيقية سورية، ثم استولى عليها إسكندر ذو القرنين، فصارت تابعة لليونان, وكانت تلك المدن في عصر المسيح يونانية، وكانت تلك المرأة أممية تحت حكومة اليونان ولغتها يونانية، فكانت فينيقية سورية مولداً، وأصلها من ذرّية الكنعانيين,
اعتراض على متى 15: 30
انظر تعليقنا على مرقس 7: 32
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 16: 18 و19 وأنا أقول لك أيضاً: أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها, وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات وفي آية 23 قال له المسيح: اذهب عني ياشيطان, أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس , ومَنْ كان بهذه الصفات لا يكون مالكاً لمفاتيح السموات ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) عيّن المسيح رسله ليكونوا دعاةً وهداةً، وخوّلهم قوّةً على عمل المعجزات الباهرة، من شفاء المرضى وإقامة الموتى، وأمرهم أن يبشروا الناس ويهدوهم إلى الحياة الأبدية، وأن يقبلوا في الكنيسة المنظورة من يرون قبوله مناسباً، وأن يرفضوا من يستوجب الرفض, ولما كان بطرس وغيره من الرسل سبباً في هداية النفوس، قال له: أعطيك مفاتيح ملكوت السموات (أي الكنيسة), وهي استعارة لطيفة, فإنه لما كانت الضلالة من أعظم العوائق للناس عن الانضمام إلى الكنيسة، وكان التعليم والإرشاد أعظم واسطة في الهداية والدخول في السماء، كان أول من قام بذلك بطرس الرسول، فإنه أول من كرز لليهود حتى آمن على يده 3000 نفس في يوم واحد، فقال المسيح (له المجد) له: أعطيك مفاتيح السماء ,
(2) قول المسيح أعطيك مفاتيح مأخوذٌ عن عادة لليهود، فإذا نبغ أحد رجالهم في العلم أعطوه مفتاح خزانة الكتب في الهيكل، ولوح كتابة، تصريحاً له ليعلّم، ويفسر الكتب المقدسة، ويفتي, فاستعار المسيح المفاتيح إشارة إلى أن بطرس سيكون من أعظم المعلمين الذين يُهتدى بهم, وكان المفتاح عند اليونان علامة الرتبة الكهنوتية، فكان الكاهن يعلق مفتاحاً على كتفه, وإعطاء الإنسان المفتاح علامة على أن المعطي يثق بالشخص الذي أعطاه هذا المفتاح, وورد في إشعياء 22: 22 وأجعل مفتاح بيت داود على كتفه، فيفتح وليس من يغلق، ويغلق وليس من يفتح , فإعطاء بطرس مفتاح ملكوت السموات هو تخويله سلطة لتوطيدها وحفظها, وقد تم هذا كما في سفر أعمال الرسل,
(3) لا يخفى أن الهادي الحقيقي هو الله، وإنما جُعل الأنبياء والرسل واسطة في الهداية، فهي استعارة لطيفة, ومن كان في يده مفاتيح شيء مخزون سهُل عليه الوصول إليه، والله هو الفتاح العليم، يعني أنه يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده, وقول الإنجيل ملكوت السموات أي الكنيسة، وقوله لن تقوى عليها أبواب الجحيم أي لا يقدر أحد أن يمسها بضرر، لأن الله يكلأها بعنايته,
(4) أما زجر المسيح لبطرس بقوله: يا شيطان فيعني وسوسة الشيطان, فإنه لما كان المسيح يتكلم عن وجوب موته، قال له بطرس: حاشاك يارب وهو لا يعلم أن خلاص البشر متوقّف على صلبه وموته، فكانت مقاومته من وسوسة الشيطان الذي لا يريد الخير لأحد,
فبطرس، وهو من كبار الرسل، بشريّ قابل للسقوط، إلا في التعليم والإلهام، ولا سيما بعد حلول الروح القدس,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 16: 27 و28 فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله, الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته , وهذا غلط لأن كلاً من القائمين هناك ذاقوا الموت، ومضى على ذلك أزيد من 1900 سنة، وما رأى أحدٌ منهم ابن الله آتياً في ملكوته في مجد أبيه مع الملائكة مُجازياً كلاً على حسب عمله ,
وللرد نقول بنعمة الله : استُعملت العبارة مجيء ابن الإنسان في الكتب المقدسة بمعنى حقيقي ومعنى مجازي، فتُطلق حقيقة على أول مجيء المسيح الكلمة الأزلي بالجسد (1يوحنا 5: 20 و2يوحنا 7), واستُعملت بالمعنى الحقيقي عن مجيئه في اليوم الأخير فيبعث الموتى من القبور ويدين العالم بالبر (أعمال 1: 11 و3: 20 و21 و1تسالونيكي 4: 15 و2تيموثاوس 4: 1),
وهناك معنى مجازي (1) على الكرازة بالإنجيل، فإنه في هذه الحالة يُقال إن ابن الإنسان أتى (يوحنا 15: 22 وأفسس 2: 17), (2) متى تأيدت كنيسته أو ملكوته بقوة في العالم (متى 16: 28), (3) متى منح المؤمنين روحه القدوس وإمارات مجيئه (يوحنا 14: 18 و23 و28), (4) متى عاقب الأشرار الذين يرفضون إنجيله (2تسالونيكي 2: 8) (5) متى دعانا بعنايته الإلهية من هذا العالم بالموت تمهيداً لدينونة اليوم الأخير (متى 24 : 42),
ولا يخفى أن المجيء هو تمثيل لظهور معجزات اقتداره، فإن واحداً من الملوك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور عساكره وخواصه,
وجاء في الفجر 89: 22 و23 وجاء ربك والملك صفاً صفاً , قال المفسرون وجاء ربك أي: ظهرت آيات قدرته وآثار قهره، مثل ذلك بما يظهر عند حضور الملك من آثار هيبته وسياسته, وقالوا: ثبت بالدليل العقلي أن الحركة على الله محال، فلابد من تأويل قوله وجاء ربك فقيل: جاء أمر ربك بالمحاسبة والجزاء, وقيل: جاء أمر ربك وقضاؤه, وقيل: وجاء دلائل ربك، فجعل مجيئها مجيئاً له تفخيماً لتلك الآيات,
فمعنى قوله سوف يأتي ابن الإنسان في مجد أبيه مع ملائكته هو يوم الدينونة، والقرينة المعينة للمراد قوله: وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله , ولما كان هذا بعيداً عن البشرية، شجعهم المسيح وقوّى آمالهم بقوله: إن ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته وهو مثل ما ورد في مرقس 9: 1 إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة , (ومثل قوله في لوقا 9: 27), وقد تم وتحقق ما أنبأ به،فبعد أن كانت الكنيسة، المعبّر عنها بملكوت الله وملكوت السموات، ضعيفة ومزدرى بها، تقوّت ونمت وأصبحت زاهرة، وشاهد جميع الرسل امتدادها وانتشارها في يوم الخمسين، لما انضم إلى عضويتها جملة ألوف, وليس ذلك فقط، بل إن بعض الرسل ولا سيما يوحنا رأى ما حلّ بالأمة اليهودية من البلاء والشتات في الدنيا، ورأى خراب الهيكل وأورشليم كما تنبأ المسيح قبلها بأربعين سنة، وشاهدوا أيضاً انتشار المسيحية في آسيا وروما وبلاد اليونان وفي أشهر ممالك ذلك العصر، فلم يذوقوا الموت حتى رأوا اتساع مملكة المسيح الروحية فإنه ملك روحي يملك على الأفئدة بالمحبة,
وقد عبّر المسيح عن الكنيسة بملكوت الله أو ملكوت السموات، إشارة إلى ما ورد في نبوة دانيال 7: 13 و14 وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى، وجاء إلى القديم الأيام فقرَّبوه قدامه، فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعَّبد له كل الشعوب والأمم والألسنة , ومجيئه الثاني ليدين العالم,
قال المعترض الغير مؤمن: قال المسيح (له المجد): إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء (متى 17: 11), وهذه نبوة عن مجيء محمد ,
وللرد نقول بنعمة الله : إذا قرأنا العدد التالي نجد أن إيليا قد أتى, فيقول متى 17: 12 إيليا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا, كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألم منهم, حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان , نعم إن يوحنا غير إيليا في شخصه، لأن التناسخ ليس من تعاليم الكتاب المقدس، لهذا لما سُئل يوحنا إن كان هو إيليا أم لا، أجاب: لست أنا , وإنما كان يوحنا سابِقَ المسيح الذي يُعِدّ الطريق أمامه بروح إيليا وقوته (لوقا1: 17) كما أنبأ جبرائيل أباه زكريا (لوقا1: 19), كما تنبأ ملاخي أيضاً (ملاخي 4: 5) كان يوحنا المعمدان إيليا النبي لأن كليهما عاشا بكيفية واحدة (قابل 3: 4 مع 1ملوك 1: 1-24),
اعتراض على متى 18: 1
انظر تعليقنا على متى 6: 7 و8
قال المعترض الغير مؤمن: يؤخذ من متى 19 و21 أن المسيح ارتحل من أريحا وجاء إلى أورشليم، ويُعلم من يوحنا 11 و12 أنه ارتحل من أفرايم وجاء إلى قرية بيت عنيا، وبات فيها، ثم جاء إلى أورشليم ,
وللرد نقول بنعمة الله : الآيات الواردة في متى 19: 1 و20: 17 و29 و21: 1 ويوحنا 10: 40 و11: 17 و54 و12: 1 تشير إلى أن سفريات المسيح كانت في أوقات مختلفة، فإنه لما سافر من الجليل توجّه إلى أورشليم وحضر عيد المظال، ثم سافر إلى بيرية بعد الأردن، ومنها سافر إلى بيت عنيا فأقام لعازر من الموت، ثم توجه إلى أورشليم على طريق أريحا فشفى الأعميين، ثم زار زكا، وتوجّه إلى بيت عنيا قبل عيد الفصح بستة أيام, فبعض الآيات المذكورة تشير إلى بعض السفريات، والبعض الآخر تشير إلى باقي سفرياته,
قال المعترض الغير مؤمن: قال المسيح (له المجد) لأحد الشباب، حسب متى 19: 16 لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحدٌ صالحاً إلا واحد وهو الله , وهذا يعني أن المسيح ليس هو الله ,
وللرد نقول بنعمة الله : قول المسيح: لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحدٌ صالحاً إلا واحد وهو الله لا ينفي الصلاح أو اللاهوت عن المسيح، فقد خاطب الشاب على أساس اعتقاده فيه، لأنه لم يكن يعتقد أن المسيح هو الله بل كان يعتقد أنه أحد معلمي الدين (الذين اعتاد اليهود أن يُسندوا إليهم الصلاح والفضيلة جزافاً) فانتهز المسيح هذه الفرصة، كما انتهز غيرها، وأجاب سائله بالإجابة التي تصحّح اعتقاده في هؤلاء المعلّمين, وكأنه يقول له: إن كنت تظن أني مجرد معلّم، فاعلم أنه ليس هناك معلم صالح على الإطلاق، إذ أن جميع الناس إن لم يكونوا خطاة بأفعالهم، فهم خطاة بطبيعتهم وأفكارهم, فليس هناك كائن يستحق أن يُقال عنه إنه صالح سوى الله وحده, أما المسيح، من جهة ما هو في ذاته، فهو صالح كل الصلاح، فقد قال عن نفسه: أنا الراعي الصالح (يوحنا 10: 11) كما شهد بذلك تلاميذه الذين عاشوا معه وعرفوه, فقال بطرس عنه إنه: لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر (1بطرس 2: 22), وقال بولس عنه إنه قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات (عبرانين 7: 26), لا بل إن أعداءه أيضاً لم يجدوا فيه علّة واحدة، فعندما سألهم مرة: من منكم يبكتني على خطية؟ (يوحنا 8: 46) لم يستطع واحد منهم أن يذكر له خطية واحدة,
قال المعترض الغير مؤمن: قال المسيح (له المجد) لشاب غني: إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا,, إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبِعْ أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني (متى 19: 17 و21), ألا يعني هذا أننا نحصل على الخلاص بالأعمال الصالحة وليس بالإيمان بالمسيح؟ ثم هل يعني قول المسيح إن كل غني يجب أن يبيع أملاكه قبل أن يكون مستحقاً لاتّباع المسيح؟
وللرد نقول بنعمة الله : (1) انظر تعليقنا على يعقوب 2: 14-26,
(2) لو أن المعترض استمر في قراءة متى 19 لوجد أن الشاب الغني الذي قال المسيح (له المجد) له هذه الكلمات قال إنه حفظ الوصايا، ولكنه لم يحصل على الخلاص, وقال المسيح (له المجد) تعليقاً على ذلك: مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله (آية 24), فأعلن المسيح بهذه الكلمات للشاب الغني أنه لم يحفظ حتى الوصية الأولى التي تقول: لا يكن لك آلهة أخرى أمامي (خروج 20: 3) لأنه فضَّل أمواله على الله، فاعتبره عابد وثن,
وقد أوضح المسيح له أهمية الإيمان به، عندما طُلب منه أن يتبعه, ولا يقدر أحد أن يتبع المسيح إلا إن هو وضع ثقته فيه, فإذا وضع الثقة في المسيح قدر أن يطيع وصايا الله,
(3) والمسيح كطبيب للنفوس يعرف المرض الروحي الذي يصيب النفس البشرية, وعندما رأى المسيح الشاب الغني عرف أن ما يعطله عن اتِّباع المسيح ودخول ملكوت الله هو حبُّه الزائد للمال, ولذلك قدّم له نصيحته أن يبيع كل ما يملكه ويعطيه للفقراء, ولم يقدم المسيح هذه النصيحة لكل من جاء إليه, فالنصيحة ببيع ما يملك الإنسان ليعطيه للفقراء هي نصيحة للشاب الغني، بسبب حالته الروحية خاصةً,
ليس الغِنَى عيباً، فقد كان إبراهيم خليل الله غنياً، وهكذا كان فليمون الذي كتب له بولس رسالته، لكن العيب هو في موقف الإنسان من الغِنى, هذا الموقف والاتجاه الفكري هو الذي يجلب على الإنسان الشر أو يمنحه الخير، فليست حياة الإنسان من أمواله (لوقا 12: 15),
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 20: 1-16 مَثَل صاحب الكرم الذي خرج خمس مرات ليجد فعلةً يرسلهم للعمل في كرمه, وهذا يثبت نبوة محمد، فالفعلة الذين اشتغلوا من الصباح هم اليهود، والذين اشتغلوا من الظهر هم النصارى، والذين اشتغلوا إلى المساء هم المسلمون ,
وللرد نقول بنعمة الله : الذي فسر هذا المثل بهذه الكيفية هو محمد نفسه كما في البخاري وغيره,
و المساء المشار إليه في عدد 8 هو الوقت الذي ذُكر في متى 19: 28 أي وقت التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده , فالمساء هو آخر الدهور الذي فيه يأتي المسيح على سحاب السماء بقوة ومجد كثير ليدين الأرض (متى 24: 30 و31 ورؤيا 1: 7 و20: 11-15), يظهر صحة تفسير المساء بما ذكرناه من مقدمة المَثَل وخاتمته، لأنه يبدأ بتعليل السبب الذي من أجله يكون الأولون آخِرين والآخِرون أولين، وينتهي بهذه النتيجة,
والآن قد أقبل المساء وكادت تغرب شمس الدهر الحاضر، وكلٌّ من النصارى والمسلمين ينتظرون رجوع المسيح ثانية، ويتوقعون حدوث ذلك قريباً جداً, ومتى جاء يملك على كل الأرض إلى ما شاء الله، ويدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته (2 تيموثاوس 4: 1),
قال المعترض الغير مؤمن: في مثل صاحب الكرم الذي استأجر فعلة لكرمه (متى 20: 1-14) أعطى ديناراً للكل، سواء الذين اشتغلوا من أول النهار، أو الذين جاءوا في الساعة 11, فهل أجر الكل سيتساوى في الملكوت؟ أليس هذا ظلماً؟
وللرد نقول بنعمة الله : كلا, فقد قيل: يجازي كل واحد بحسب أعماله (متى 16: 27), ونفس هذه العبارة وردت في مزمور 62: 12 ورومية 2: 5-7, وقال السيد المسيح ها أنا آتي سريعاً لأجازي كل واحد كما يكون عمله (رؤيا 22: 12),
ولما كانت أعمال الناس تختلف، لذلك مجازاتهم تختلف إنْ خيراً أو شراً (جامعة 12: 14) و حسب ما هو مكتوب في سفر أعمالهم (رؤيا 20: 12), الأبرار يختلفون في المكافأة, والأشرار يختلفون في العقوبة, فقد قيل عن الأبرار: لأن نجماً يمتاز عن نجمٍ في المجد (1كورنثوس 15: 41), وأما عن الأشرار فقال الرب عن المدينة الرافضة لكلمة الله الحق أقول لكم: ستكون لأرض سدوم وعمورة يوم الدين حالة أكثر احتمالاً مما لتلك المدينة (متى 10: 15), إذن هناك حالة أكثر احتمالاً من حالة أخرى من جهة العقوبة, وقال الرب لبيلاطس: الذي أسلمني إليك له خطية أعظم (يوحنا 19: 11),
واختلاف العقوبة والثواب أمر يناسب العدل الإلهي,
إذن ما معنى أن الكل أخذوا ديناراً، بالتساوي؟
إنما يتساوون في دخول الملكوت، وليس في الدرجة, الكل يدخل الملكوت، حتى الذي تاب في آخر لحظة من حياته, ولكن داخل الملكوت كل واحد ينال حسب عمله, الذي أعطى مائة، والذي أعطى ستين، والذي أعطى ثلاثين، كل واحد حسب عمله,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 20: 20 أن أم ابني زبدي طلبت من المسيح أن يُجلس ابنيها واحداً عن يمينه والآخر عن يساره في ملكوته، وفي مرقس 10: 35 أن ابني زبدي طلبا هذا الطلب ,
وللرد نقول بنعمة الله : من القواعد المقرّرة أن من فعل شيئاً بواسطة غيره نُسب إليه فعله، فالابنان طلبا هذا الطلب بواسطة والدتهما، فنُسِب الطلب إليهما, أو يُحتمل أن والدتهما طلبت هذا الطلب أولاً، ومن شدة تشوّقهما للحصول عليه أعاداهُ ثانيةً بنفسيهما، فذكر متى طلب الوالدة، وذكر مرقس طلبهما,
انظر تعليقنا على متى 27: 5,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 20: 22 و23 قول المسيح لستما تعلمان ما تطلبان, أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا، وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا؟ قالا له: نستطيع, فقال لهما: أما كأسي فتشربانها، وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان , وقوله بالصبغة التي أصطبغ بها إلحاقي وكذا قوله وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان , فأسقطهما كريسباخ من المتن, وقال آدم كلارك الشيء نفسه ,
وللرد نقول بنعمة الله : قال كلارك إن القواعد التي وضعها المحققون للقراءات الصحيحة لا تدل على وجود هذه الكلمات، ولكنهم:
(1) أثبتوها لوجودها في نسخ كثيرة,
(2) هذه العبارة مرادفة للعبارة التي قبلها وهي قوله: أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا؟ فإنها مثل قوله وإن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها , والصبغة أو العماد بين اليهود كان يُصنع في البرد القارص بأن يجعل الشخص الذي يراد عماده في الماء مدة، فكان رمزه إلى أقصى موت, أما لفظة الكأس فكانت كناية عن المصائب والنوائب, فمن هنا ترى أن معنى الكأس والصبغة واحد، فهي تفسير المرادف، وقد نبَّه آدم كلارك أن معنى العبارتين واحد,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 20: 30 أن أعميين كانا جالسين ففتح أعينهما، وقال في مرقس 10: 46 ولوقا 18: 35 إنه وجد أعمى واحداً إسمه بارتيماوس ففتح عينيه, ويقول متى ومرقس إن المسيح شفى الأعمى خارج أريحا، بينما يقول لوقا إنه شفاه عندما اقترب من أريحا ,
وللرد نقول بنعمة الله : العبارات الواردة في البشائر الثلاث عن شفاء المسيح أعميي أريحا في سفرته الأخيرة إلى أورشليم غير متفقة في بعض التفاصيل, فبحسب ما جاء في متى شفى المسيح الأعميين عند خروجه من المدينة، أما مرقس فيذكر أعمى واحداً اسمه بارتيماوس، ويقول أيضاً إن المسيح شفاه وهو خارج من المدينة, أما لوقا فيروي أن المعجزة حصلت عند اقتراب المسيح من المدينة, وهو أيضاً يتكلم عن شفاء أعمى واحد,
وإشارة متى إلى شفاء أعميين، بينما مرقس ولوقا يذكران شفاء أعمى واحد، لا تنشئ صعوبة في القضية, فالقولان إن المسيح شفى أعميين، وإنه شفى أعمى واحداً غير متناقضين، كما أن القولين اليوم نزل بَرَد و اليوم نزل مطر وبَرَد غير متناقضين, كل ما في الأمر أن إحدى العبارتين أوفى من الأخرى, فيتضح إذن أن المسيح شفى في أريحا أعميين على الأقل، ذكر مرقس منهما اسم الأعمى الذي يتكلم عن شفائه، الأمر الذي يحمل على الاستنتاج أن بارتيماوس هذا عاش جملةسنين بعد شفائه وكان معروفاً للمسيحيين الأُوَل، ولذا كان ذكر اسمه أمراً طبيعياً,
ولكن كيف يمكننا التوفيق بين قول لوقا إن المعجزة حصلت عند اقتراب المسيح من المدينة، وقول متى ومرقس إنها حصلت عند خروجه منها؟
من المحتمل أن المسيح شفى أعمى واحداً عند اقترابه من المدينة، وشفى أعميين آخرين عند خروجه منها, فقد جاء في يوحنا 20: 30 أن المسيح عمل معجزات لم تُدوَّن, فيكون أن لوقا أورد معجزة غير التي كتب عنها متى ومرقس، ويكون المسيح قد شفى ثلاثة عميان في أريحا,
ويوجد حل آخر قد حاز قبولاً لدى كثيرين: لوقا 18: 35 يقول لما اقترب من أريحا كان أعمى جالساً على الطريق يستعطي فيُرجَّح أن بارتيماوس هو الذي كان جالساً يستعطي, فرواية لوقا لا تفيد حتماً أن المعجزة تمت قبل دخول المسيح المدينة, فلو لم يكن لدينا إلا ما جاء في لوقا، لَجازَ لنا أن نستنتج هكذا, أما وقد جاء في متى ومرقس ما يُظهر أن المعجزة تمت عند خروج المسيح من المدينة، فعلينا إذن أن ننظر في القضية نظراً دقيقاً، فنرى أن رواية لوقا لا تنفي إمكانية حصول الشفاء بعد دخول المسيح المدينة أو عند خروجه منها، لأن لوقا يفيد فقط أن الأعمى كان جالساً يستعطي عندما اقترب المسيح من المدينة، ولا يقول صريحاً إن الشفاء تم في تلك اللحظة عينها، أي قبل دخول المسيح المدينة, نعم إن لوقا يذكر الشفاء قبل أن يذكر اجتياز المسيح إلى أريحا وخروجه منها, وهو إذ يذكر اسم الأعمى يشير إلى شفائه، مع أن هذا حصل بعد حين (أي عند خروج المسيح من المدينة), فمن المحتمل أن بارتيماوس اجتاز مع الجمع إلى أريحا عند دخول المسيح وأتباعه إليها، ثم انضم إليه أعمى آخر وصرخا معاً إلى المسيح, وكثيراً ما نجد في الكتب التاريخية حوادث يسبق ترتيب تفصيلاتها موضعه الأصلي، كما نرى في هذه القضية, ويؤيد هذا ما جاء في لوقا 3: 19-23 حيث نرى أن لوقا يتكلم عن سَجْن يوحنا ثم يتكلم بعد هذا على معمودية المسيح التي حصلت قبل سجن يوحنا,
وأمامنا حل آخر، وهو أن متى أورد خلاصة ما حصل في أريحا, وحباً في الإيجاز بدلاً من أن يقول إن المسيح شفى أعمى عند دخوله إلى المدينة، وشفى أعمى آخر عند خروجه منها، يقتصر على ذكر شفاء أعميين كانا جالسَيْن على جانب الطريق، ولا يرى من اللازم إيراد زمان ومكان المعجزة بالتفصيل, وهذا الحل يلاشي التناقض الظاهري,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 21: 2 أن المسيح أرسل تلميذين إلى القرية ليأتيا بأتان وجحش وركب عليهما، وورد في الأناجيل الثلاثة الأخرى أنهما أتيا بالجحش وركب عليه ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) هاك نص متى 21: 2 اذهبا إلى القرية التي أمامكما، فللوقت تجدان أتاناً مربوطاً وجحشاً معها، فحُلّاهما وأْتياني بهما , فلا مانع من أنهما أتيا بالجحش وأمه، وركب على أحدهما, وتمت بذلك نبوة زكريا 9: 9 التي تقول إن المسيح سيأتي جالساً على أتان, وقد ركب إبراهيم الخليل على أتان لما كان متوجهاً ليقدم ابنه ذبيحة، وركب موسى الأتان لما توجه إلى مصر، وكذلك سيركب المسيح على أتان, وفرشوا ثيابهم، فإنه جرت عادة الإسرائيليين أنهم إذا ملّكوا ملكاً فرشوا ثيابهم أمامه كما فعلوا مع الملك ياهو (2ملوك 9: 13) فكذلك فعلوا مع المسيح، لأن الكتاب يشهد أنهم كانوا يعتبرونه نبياً عظيماً, وقول البشير متى إنه ركب على كلٍّ منهما، مراده إنه ركب على كلٍ منهما بالتناوب,
(2) قد يُثنَّى الضمير ويعود على أحد المذكورَيْن، كقول القرآن يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (الرحمان 55: 22), وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب, و جعل القمر فيهن نوراً (نوح 71: 16) أي في إحداهن, ولمن خاف مقام ربه جنتان (الرحمان 55: 46) وإن المعنى جنة واحدة, وكذلك ورد فيه إطلاق المثنى على الجمع وإطلاق الجمع على المفرد وعلى المثنى أيضاً,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 21: 19 و20 أن المسيح نظر شجرة تين على الطريق وجاء إليها فلم يجد فيها شيئاً إلا ورقاً فقط، فقال لها: لا يكن منك ثمرٌ بعد إلى الأبد, فيبست التينة في الحال, فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين: كيف يبست التينة في الحال؟ وورد في مرقس 11: 13-15 فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق، وجاء لعله يجد فيها شيئاً, فلما جاء إليها لم يجد شيئاً إلا ورقاً، لأنه لم يكن وقت التين, فأجاب يسوع وقال لها: لا يأكل أحد منك ثمراً بعد إلى الأبد, وكان تلاميذه يسمعون، وجاءوا إلى أورشليم , وفي آية 20 ، 21 وفي الصباح إذ كانوا مجتازين رأوا التينة قد يبست من الأصول، فتذكر بطرس وقال له: يا سيدي انظر، التينة التي لعنتها قد يبست ,
في العبارتين اختلاف، وفضلاً على ذلك فليس للمسيح حق أن يأكل من شجرة التين من غير إذن مالكها، ولم يكن من المعقول أن يدعو عليها فيوجب الضرر على مالكها، وأنه يغضب عليها لعدم الثمرة في غير أوانها, ثم إنه لو كان إلهاً كما يدّعي المسيحيون لَعَرف أنها بغير ثمر ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) لم تكن هذه الشجرة ملكاً خصوصياً لأحد، بل كانت لعموم الناس، فكان مباحاً لأبناء السبيل أن يأكلوا منها بلا مانع، فكان للمسيح حقٌ أن يأكل منها حسب نصوص الشريعة اليهودية (تثنية 23: 25), انظر تعليقنا على مرقس 2: 23,
(2) ولما كان عليها ورق أخضر اتخذ المسيح ذلك علامة على وجود باكورة تين، فإن التين في أرض فلسطين يثمر باكورة التين عند ظهور الورق، وأحياناً تطلع الثمار قبل النضج العام بأيام كثيرة، وهو المعروف عند العامة في الشام بالديفور, وقوله: ولم يكن وقت التين أي وقت جَنْيه العمومي، ولكنه كان وقت باكورة التين,
(3) هذه التينة مثل المرائي الذي يتظاهر بالتقوى وهو مجرَّد منها، فعليه علامات القداسة وقلبه ملآن بالنجاسة, وهي تشير إلى الأمة اليهودية التي خصّها الله بالنواميس والشرائع والأنبياء، ومع ذلك كانت مجرّدة من الإيمان والمحبة والتواضع، ورفضت المسيح ولم تذعن لأوامره، ولم تأت بثمر، بل ارتكنت على أنها شعب الله, فلهذا قال المسيح (له المجد) للشجرة: لايكن فيك ثمر ليعلّم الناس أن الأهم هو الثمر,
(4) ولَعْن التينة نبوّة على مستقبل الأمة اليهودية في ذلك الوقت، وإنذار للناس في كل عصر بأنهم إن لم يأتوا بأثمار القداسة والتقوى، حلّت بهم دينونة الله العادلة, والقول يبست في الحال إشارة إلى خراب مدينة أورشليم وعقاب الأمة اليهودية، وقد كانت آيات المسيح كلها مبنية على الرحمة، ولكنه علّم تلاميذه أنه شديد العقاب، وإن كان رحيماً,
(5) لم يكن المسيح جاهلاً بأمر هذه الشجرة، كيف لا وهو الذي يعرف خفايا كل إنسان، حتى أخبر السامرية مثلاً بكل ما فعلت, ولكنه تصرّف بهذه الكيفية ليعرّف الرسل بالعقاب الذي يحل بالمنافقين، وفي نفس الوقت يحل بالتينة التي أظهرت بأوراقها الخضراء أنها تحمل باكورة التين دون أن تحمله فعلاً,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 21: 40 و41 بعد رواية مثل غارس الكرم فمتى جاء صاحب الكرم، ماذا يفعل بأولئك الكرامين؟ قالوا له: أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً، ويسلّم الكرم إلى كرامين آخرين، يعطونه الأثمار في أوقاتها وفي لوقا 20: 15 و16 بعد رواية المثل قال: فماذا يفعل بهم صاحب الكرم؟ يأتي ويهلك هؤلاء الكرامين، ويعطي الكرم لآخرين, فلما سمعوا قالوا: حاشا , ففي العبارتين اختلاف، لأن الأولى تقول إنهم قالوا إنه يهلكهم، والثانية تقول إنهم أنكروا ذلك ,
وللرد نقول بنعمة الله : أوضح المسيح أنهم استوجبوا دينونة الله العادلة، فقال: إنسان غرس كرماً وأحاطه بسياج وسلمّه للكرامين وسافر, ولما قرب وقت الأثمار أرسل عبيده إلى الكرامين ليأخذ أثماره، فجلدوا بعض عبيده، ورجموا البعض الآخر, وأرسل إليهم ثانيةً ففعلوا بهم كذلك, وأخيراً أرسل ابنه فقتلوه, فماذا يفعل بهم صاحب الكرم؟ قالوا: يهلكهم ويسلّم الكرم لغيرهم, فالبشير متى قال: إن أئمة الأمة اليهودية شهدوا على أنفسهم أنهم استوجبوا العقاب لعنادهم وقتلهم الأنبياء، ورفضهم الكلمة الأزلية، ابنه الحبيب، مع أنهم كان يجب أن يأتوا بأثمار القداسة، لأن الله خصّهم بمراحمه, فلما أورد المسيح لهم المقدمات المنطقية، لم يسعهم سوى التسليم بصدق النتيجة, ففي متى ذكر كلامهم، وهو النتيجة الطبيعية لذات المقدمات، أما في لوقا فذكر النتيجة مع المقدمات، وهو المعروف في المنطق بمتصل النتائج، وسُمي بذلك لوصل نتائجه بمقدماته, وفي الحالتين سلَّم أئمة اليهود بهذه النتيجة الطبيعية, وفي لوقا قال: فلما سمعوا (أي لما فهموا) أن هذا الكلام عليهم، قالوا: حاشا, والنفي هنا لا ينصبّ على النتيجة، وحاولوا تبرئة أنفسهم مما نُسب إليهم من قتل الأنبياء ورفضهم,
قال المعترض الغير مؤمن: تنبأ المسيح في مثل الكرامين الأردياء بمجيء محمد وقوة بطشه متى 21: 33-44 ومرقس 12: 1-11 ولوقا 20: 9-18 ,
وللرد نقول بنعمة الله : هل يسلم المعترض بما جاء في المثل من أن رب البيت هو الله، وأن ابنه هو المسيح، وأنه تكلم عن نفسه كأن اليهود قتلوه؟
ومادام المسيح قائل هذه الأقوال، كان يجب عليه أن يسلمّ بها ويقر أن المسيح ابن الله، وأنه مات عن خطايا العالم,
وبعد إرسال الابن لم يُرسَل رسولٌ آخر, كان الرسول الأخير هو الابن، فليس من المعقول أنه بعد ما أرسل الابن يرجع فيرسل العبيد,
عدا ذلك فإن المسيح اقتبس هنا خبر الحجر الذي رفضه البناؤون (مزمور 118: 21 و22) وقال بطرس إن صاحب سفر المزامير قصد بالحجر الذي رفضه البناؤون المسيح نفسه، حيث يقول: فليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل أنه باسم يسوع الناصري الذي صلبتموه أنتم، الذي أقامه الله من الأموات، بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً, هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون الذي صار رأس الزاوية (أعمال 4: 10 و11 و1بطرس 2: 4-8), وعليه فالبناؤون كانوا يهود عصره,
وقال المسيح (له المجد) المثل خطاباً لليهود ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمّة تعمل أثماره (متى 21: 43), والعهد الجديد يبيّن أنه يُعطى للذين يؤمنون بالمسيح إيماناً حقيقياً، الذين هم جنس مختار وكهنوت ملوكي، أمّة مقدسة شعب اقتناء وقال لهم: لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب، الذين قبلاً لم تكونوا شعباً وأما الآن فأنتم شعب الله، الذين كنتم غير مرحومين وأما الآن فمرحومون (1 بطرس 2: 9 و10), وهنا تلميح لطيف إلى الأثمار التي يطلبها رب البيت من الأمة التي تتولى الكرم، ألا وهي الكنيسة المسيحية، والكرم ملكوت الله (متى 21: 43 يشرح عدد 41), وعليه فقد ثبت أن الحجر الذي رفضه البناؤون هو المسيح نفسه, وأما مقاومة المسيح وعدم الرضوخ له فهما سبب سخط الله وحلول نقمته على أعدائه, وقد تم شيء من ذلك عند خراب أورشليم وتمثيل الرومان باليهود تمثيلاً فظيعاً (سنة 70م) بعد صلب المسيح بنحو أربعين سنة,
وظن بعض المسلمين أن المراد برب البيت المشار إليه في المثل هو محمد، ولكن هذا لا يمكن إثباته، لأن المسيح (في عدد 37 بحسب ما جاء في المثل) كان ابن رب البيت، وليس المسيح ابن محمد, وعليه فلا يمكن تطبيق هذا المثل على ما زعمه المسلمون وإثبات دعواهم إلا بثلاثة أشياء, الأول تحريف المثل، الثاني إغفال القرينة وسياق الكلام، والثالث إغفال النصوص الكثيرة الواردة في أسفار العهد القديم والعهد الجديد,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في إنجيل متى 24: 2 قول المسيح : الحق أقول لكم، إنه لا يُترك ههنا حجرٌ على حجرٍ لا يُنقَض , غير أن عمر بن الخطاب بنى المسجد مكان هيكل سليمان، فيكون كلام الإنجيل غلطاً, وبما أنه مذكور في مرقس 13: 2 ولوقا 21: 6 فيكون ثلاثة أغلاط، باعتبار الأناجيل الثلاثة ,
وللرد نقول بنعمة الله : تنبأ المسيح عن خراب الهيكل لما كانت الأحوال حسنة، ولم يكن هناك ما يدل على الخراب, أما الهيكل فكان فخر الأمة الإسرائيلية، ومع ذلك تمّ ما أنبأ به المسيح وذلك بعد أربعين سنة، فإن جيش روما استولى على أورشليم سنة 70م، وقد ذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي خراب أورشليم بالتفصيل التام، وكان الرومان قد أسروه وبقي معهم وقت الحصار, وبما أنه كان يهودياً، بل من كهنة اليهود، كان طبعاً لا يروي شيئاً من شأنه تأييد نبوات المسيح,
قال يوسيفوس: لما استولى عساكر روما على المدينة، أصدر تيطس أمراً بأن يخربوها كلها، ماعدا ثلاثة أبراج, أما باقي السور فهُدم تماماً من جدرانه، بحيث لم يبق منه أثر يدل على أنه كان مسكوناً , وقال مايمونيدس (مؤرخ يهودي) إن أحد ضباط جيش تيطس حرث أساس الهيكل - وكان ذلك بعناية إلهية، فإن تيطس كان يتمنى بقاء الهيكل، وكثيراً ما أرسل يوسيفوس إلى اليهود لإغرائهم على ترك العناد وزيَّن لهم التسليم وحفظ المدينة والهيكل, غير أن المسيح كان قد تنبأ عن خراب الهيكل، وكان ذلك قضاءً مقضيّاً, واليهود أنفسهم أحرقوا أولاً أروقة الهيكل، ثم قذف أحد عساكر روما من تلقاء ذاته شعلة نار في المنفذ الذهبي، فاشتعلت النيران، فأصدر تيطس أمراً بإطفاء النيران، ولكن لم يلتفت أحد إلى أوامره من شدة الاضطراب، فهجم العساكر على الهيكل، ولم يثنهم وعد ولا وعيد، فإن مقتهم لليهود حملهم على التخريب, وقال يوسيفوس: أُحرق الهيكل على غير رغبة القيصر ,
فترى من ذلك أن نبوّة المسيح تمت بنوع غريب، وصارت أورشليم مدوسةً من الأمم، إلى أن يتم وقتهم, وفشل اليهود المرة بعد الأخرى في أن يستردّوها, وقد صرح يوليان المرتد امبراطور روما لليهود ببناء مدينتهم وهيكلهم، بل حثَّهم على ذلك، ووعدهم بالعودة إلى وطنهم العزيز, وكانت غايته من ذلك تكذيب ما ورد في الإنجيل، فإنه كان ارتد وصار من ألدّ أعداء الديانة المسيحية، وكان مغرماً بالعبادة الوثنية، فكانت غيرة اليهود مثل غيرته، وشرعوا في وضع أساس الهيكل، ولكن لم يتيسر لهم مع مساعدة هذا الامبراطور تتميم هذا العمل, قال أحد المؤرخين الوثنيين إن ناراً مخيفة انبعثت من الأرض وأحرقت العمال، وتعذَّر عليهم الدنوّ من الأساسات، وأضربوا عن العمل, وعلى كل حال فسواء حصلت هذه المعجزات الباهرة أو لم تحصل، فالنتيجة واحدة، وهي أنه لم يُبْن الهيكل، وتمت أقوال النبوّة,
أما قول المعترض إن عمر بنى جامعاً محل الهيكل، فنقول إنه لا يوجد دليل على أن جامع عمر هو في موضع الهيكل، وذلك أن الرومان خربوا أورشليم والهيكل وحرثوها حرثاً، بل أن أدريان أصدر أمراً بأن تحرث بالملح لكي لا تُزرع، فضاعت آثار الهيكل ومعالمه، ولم يهتد أحدٌ إلى موقعه الأصلي, ولو فرضنا أن عمر بن الخطاب بنى جامعه مكان هيكل سليمان لكان ذلك من أقوى الأدلة على صدق أقوال النبوة، فإن المسيح قال عن الهيكل إنه سيخرب وأن أورشليم تكون مداسة من الأمم حتى تكمل أزمنة الأمم (لوقا 21: 24), فبناء عمر لجامعه مكان الهيكل هو أعظم دليل على أن الأمم داست أورشليم، وأن بناء الهيكل نُقض ولم يُترك فيه حجرٌ على حجرٍ,
قال المعترض الغير مؤمن: عمل المسيح المعجزات لا يدل على نبوَّته فضلاً عن ألوهيته، فقد جاء في متى 24: 24 قول المسيح سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون أياتٍ عظيمة وعجائب، حتى يُضِلّوا لو أمكن المختارين أيضاً وورد في 2تسالونيكي 2: 9 الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة ,
وللرد نقول بنعمة الله : المعجزة هي أمر خارق للعادة، داعية إلى الخير والسعادة، مقرونة بدعوى النبوة، قُصد بها صدق من ادّعى أنه رسول من الله,
ويلزم أن تكون المعجزة ظاهرة أمام العيان، بحيث لا يختلف فيها اثنان, فإذا قال أحد إن جبريل أتاه ليلاً وأصعده إلى السماء مثلاً فلا تُقبل دعواه، لأنه ربما كان ذلك من الخيالات التي كثيراً ما تطرأ على الإنسان في المنام, أما فتح أعين العميان وإحياء الموتى وشفاء الأبرص والأكمه أمام الجماهير الكثيرة من الأعداء والأصدقاء، فهي المعجزة لأنها خارقة للقوانين الطبيعية,
ويلزم أن تكون المعجزة نافعة ومفيدة، فكلام الحصى والرمان والعنب وأكفة الباب وحيطان البيت والشجرة ليست بمعجزة، فإنه لا فائدة للإنسان منها,
ويلزم في المعجزة الإجماع والتواتر، وقد توفرت شروط صحة المعجزة في آيات المسيح، فأتى بالأمور الخارقة للعادة، فكان يأتي إليه الكثيرون من الوجهاء والعظماء ويستغيثون بكرمه ليشفي أولادهم من الأمراض أو يقيم أحباءهم من الموت,
وشهد القرآن لمعجزات المسيح، فورد في آل عمران 3: 49 إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم إن في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين , وكذلك ورد في سورة المائدة 5: 110 إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك، إذ أيدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد وكهلاً, وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني، وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني، وإذ تخرج الموتى بإذني ,
وقد حذر المسيح رسله من الأنبياء الكذبة الذين يأتونهم بالحيل والمكائد، وتنبأ أنه سيظهر البعض بتلك السمات الكاذبة, وقد ظهروا فعلاً، فقال يوسيفوس: ظهر كثيرون ممن ادّعوا الوحي الإلهي وأضلوا كثيرين، وقادوهم إلى البراري، وادعوا أن الله سيعتقهم من نير روما، وإن نبياً كاذباً أغرى نحو ثلاثين ألف نفر فخرجوا معه إلى البرية فلاشاهم فيلكس عن آخرهم, وبعد صلب المسيح ظهر سيمون الساحر، وأغرى سكان السامرة بأنه قوة الله العليا، وادّعى أنه ابن الله, كما ظهر دوسيثوس السامري وادعى أنه هو المسيح الذي تنبأ عنه موسى، كما ظهر بعد صلب المسيح باثنتي عشرة سنة نبي كاذب اسمه نادوس أغرى كثيرين أن يأخذوا ثيابهم ويقتفوا أثره إلى نهر الأردن بدعوى أنه سيفلقه ليعبروا منه، وقال يوسيفوس إنه أضل كثيرين، وتم بذلك قول المسيح, ثم ظهر بعد ذلك بسنين قليلة أنبياء كذبة كثيرون في عهد نيرون، وكان لا يمضي يوم بدون أن يقتل الحكام واحداً منهم (تاريخ يوسيفوس الكتاب 20 فصل 4 و7),
وقول المسيح إن المضلين يدّعون بعمل آيات كذبة، هو كما فعل سحرة المصريين, وكل من يفهم ويدرك يمكنه أن يميّز بين المعجزات الصادقة من الكاذبة، فالمعجزات هي من أقوى الأدلة على صدق النبوة، وإنما الواجب الاحتراس من الكذبة الذين يحتالون بالخداع لإضلال الناس,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 24: 34 عن علامات نهاية الزمان قول المسيح: الحق أقول لكم: لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله , وقد مضى ذلك الجيل، ومضت أجيال عديدة، ولم ينته العالم ,
وللرد نقول بنعمة الله : تحدث المسيح في متى 24 ومرقس 13 عن ثلاثة أمور: رجوعه ثانية, وخراب أورشليم، ونهاية العالم, وليس عن نهاية العالم فقط, وقوله: لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله المقصود به تحقيق نبوّته عن نهاية العالم عندما يبدأ الله بتنفيذ مشيئته من جهة خراب أورشليم الثاني , فضلاَ على أنه قد تم ذلك خراب أورشليم الأول، إذ خربت أورشليم سنة 70م وتشتت اليهود في أرجاء الأرض, ولم يكن ذلك الجيل قد مضى بعد,
ومن نبوات المسيح في هذا الأصحاح عن خراب أورشليم الثاني ونهاية العالم، قوله: فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال قائمة في المكان المقدس (ليفهم القارئ) فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال، والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئاً,,, وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام, وصلّوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت (متى 24: 15-20), فهذا سيتم في نهاية العالم عند ظهور النبي الكذاب في أورشليم….
ومن أقواله في تلك المناسبة، التي تمت أيضاً في ذلك الجيل: يسلّمونكم إلى ضيق، ويقتلونكم, وتكونون مُبْغَضين من جميع الأمم لأجل اسمي, وحينئذ يعثر كثيرون ويسلّمون بعضهم بعضاً (متى 24: 9 و10), وأيضاً قوله: حينئذ يكون اثنان في الحقل، يُؤخذ الواحد ويُترك الآخر, إثنتان تطحنان على الرحى، تؤخذ الواحدة وتُترك الأخرى (متى 24: 24 و41),
إذن الأصحاح فيه معلومات على عن ثلاثة أمور: رجوعه ثانية, وخراب أورشليم، ونهاية العالم, وعبارة مجيء ابن الإنسان تعني مجيئه الثاني في نهاية الزمان, كما قال: طوبى لأولئك العبيد، الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين, كونوا أنتم مستعدين، لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان, طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا (لوقا 12: 37 و40 و43), وقوله أيضاً لئلا يأتي بغتة فيجدكم نياماً (مرقس 13: 36),
اعتراض على متى 24: 36
انظر تعليقنا على لوقا 21: 33 و34
قال المعترض الغير مؤمن: من طالع قصة المرأة التي أفرغت قارورة الطيب على المسيح في متى 26: 7-13 ومرقس 14: 3-9 ويوحنا 12: 3-8 وجد فيها اختلافات: (1) صرّح مرقس أن هذا الأمر كان قبل الفصح بيومين، وقال يوحنا كان قبل الفصح بستة أيام, (2) جعل متى ومرقس الحادثة في بيت سمعان الأبرص، وجعلها يوحنا في بيت مريم, (3) قال متى ومرقس إنها سكبت الطيب على رأس المسيح، وقال يوحنا إنها سكبته على قدميه, (4) وقال مرقس إن الذين اعترضوا كانوا من الحاضرين، وقال متى إن المعترضين هم التلاميذ، وقال يوحنا إن المعترض كان يهوذا, (5) قال متى إن ثمن الطيب كثير، وقال مرقس إنه اكثر من 300 دينار، وقال يوحنا إنه 300 دينار ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) لم يقل متى ولا مرقس إن هذه الحادثة حصلت قبل الفصح بيومين ولا بستة أيام، وإنما قالا إنه قبل الفصح بيومين عقد أئمة اليهود مجلساً للمداولة والمشاورة في كيفية قتل المسيح، ثم ذكرا قصة سكب قارورة الطيب, وتوصّلا بها إلى ذكر يهوذا الإسخريوطي، لأنه يُحتمل أن حادثة سكب قارورة الطيب كانت من الأسباب التي حملته على تسليم سيده, وكذلك لا يُؤخذ من عبارة يوحنا أنه قبل الفصح بستة أيام حصلت هذه الحادثة، بل قال قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا فصنعوا له وليمة عشاء , فهذه العبارة تفيد أنه أتى إلى بيت عنيا قبل الفصح بستة أيام، وأُقيمت الوليمة بعد أن أقام هناك أياماً,
(2) لم يقل يوحنا إن الوليمة كانت في بيت مريم، بل قال: فصنعوا له هناك عشاء ,
(3) كانت عادة اليهود أن يسكبوا الطيب على الرأس أو الشعر، فاقتصر متى ومرقس على ذكر هذه العادة, أما يوحنا الرسول فضرب عنها صفحاً اعتماداً على شهرتها ومعرفة الناس لها، وذكر مسح القدمين لغرابته، ودلالته على تواضعها، وعلى منزلة المسيح الرفيعة عندها, فبعد أن دهنت رأسه دهنت قدميه ومسحتهما بشعرها,
(4) قول مرقس أناساً من الحاضرين يشمل التلاميذ لأنه جنس عام، وكلمة التلاميذ تشمل يهوذا، لأنه كان واحداً منهم, فعلى هذا يكون يهوذا من الحاضرين، وواحداً من التلاميذ, وحينئذ فلا تناقض مطلقاً, فإذا أُريد بكلمة التلاميذ يهوذا خاصة، يكون من إطلاق الجمع على الواحد, وإذا أُريد الجمع، فلا مانع من أن يكون بعض التلاميذ اشتركوا مع يهوذا في التذمر على المرأة عن خلوص نية، وظنوا أنها أتت شيئاً غير مناسب, أما تذمر يهوذا فكان عن سوء نية، لأن الكتاب المقدس يشهد على شراهته وأنه كان سارقاً,
(5) قال متى إن ثمن الطيب كثير، لأن 300 ديناراً هو أجر عامل لمدة سنة, وقال مرقس إن ثمنه أكثر من 300 دينار، لأن الأسعار غير محدَّدة، ويمكن أن يباع الشيء بأثمان مختلفة حسب قانون العرض والطلب, أما يوحنا فاقتبس نص كلمات يهوذا الإسخريوطي,
قال المعترض الغير مؤمن: يوجد اختلاف بين ما ورد في متى 26: 21-25 وما ورد في يوحنا 13: 21-27 ,
وللرد نقول بنعمة الله : هاك ما ورد في متى 26: 21-26 : إن واحداً منكم يسلّمني، فحزنوا جداً وابتدأ كل واحد منهم يقول: هل أنا هو يارب؟ فأجاب: الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمّني,,, فسأل: هل أنا هو يا سيدي؟ قال له: أنت قلت , وورد في يوحنا 13: 21-27 : إن واحداً منكم يسلمني، فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون فيمن قال عنه ,,, فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له: ياسيد من هو؟ أجاب يسوع: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه, فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا ,
ومن هذا نرى:
(1) قال المسيح (له المجد) إن واحداً منكم يسلمّني,
(2) يُفهم من الروايتين أنهم انذهلوا وتحيروا، وأخذوا يتساءلون عن الشخص الذي يتجاسر على ذلك,
(3) تصريحه بأن يهوذا هو الذي أضمر له السوء,
(4) لما استفهم أحد التلاميذ من المسيح عن الشخص الذي قصد أن يسلّمه قال (بحيث لم يسمعه سوى السائل): الذي أغمس اللقمة وأعطيه , ثم غمس اللقمة وأعطاها له, وهو لا ينافي ما ذُكر في إنجيل متى من أن يهوذا استفهم منه بعد ذلك عن مسلّمه فقال له: أنت هو ,
اعتراض على متى 26: 28
انظر تعليقنا على لوقا 22: 17
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 26: 48-50 أن يهوذا كان قد قال لليهود: الذي أُقَبِّله هو هو أمسكوه , فتقدم وقال: السلام يا سيدي , وقبّله, فأمسكوه, وورد في يوحنا 18: 2-8 وكان يهوذا مسلّمه يعرف الموضع، لأن يسوع اجتمع هناك كثيراً مع تلاميذه، فأخذ يهوذا الجند وخداماً من عند رؤساء الكهنة والفريسيين وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه، وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري, قال لهم يسوع: أنا هو, وكان يهوذا مسلّمه أيضاً واقفاً معهم, فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض, فسألهم أيضاً: من تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصري, أجاب يسوع: قد قلت لكم إني أنا هو, فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون , وبين القصتين تناقض ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) من تأمل القصتين رأى أن يوحنا الرسول لم يذكر تقبيل يهوذا لسيده، اعتماداً على فهم السامع، لأنه لما كان يهوذا تلميذاً للمسيح كان لابد أن يسلّم عليه ويقبّله، ويؤدي له الاحترام الواجب على التلميذ نحو أستاذه, وهذا أمر معلوم، سواء ذكره يوحنا أم لا, وإنما المهم هو أنه غدر بسيده, ولما قبّله قال لهم المسيح: من تطلبون؟ فوقعت هيبته الإلهية، هيبة القداسة والحق والعدالة في أفئدتهم، وسقطوا على الأرض,
(2) إنه قال لهم: أنا هو، لئلا يمسّوا تلاميذه بضرر فإنه هو الحافظ, ولا يوجد أدنى اختلاف في رواية هذه الأخبار المهمة, نعم يكون هناك تناقض لو قال أحدهم إن يهوذا قبّل المسيح، ثم قال الآخر إنه لم يقبّله,وكذلك لو قال الآخر إنهم سقطوا من هيبته المقدسة، وقال الآخر لم يحصل شيء من ذلك, ولكن لم يحصل شيء من هذا، فالله أوحى إلى كل رسول أن يروي ما رآه، وألهم كل واحد أن يقول حسب طريقته، فإن لكل نبي نَفَساً وروحاً لا يشاركه فيه الآخر,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 26: 64 من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء , وهذا غلط لأن اليهود لم تره قط جالساً عن يمين القوة ولا آتياً على سحاب السماء، لا قبل موته ولا بعده ,
وللرد نقول بنعمة الله : هذه الآية الشريفة هي القول الفصل الذي قاله المسيح عن ذاته وماهيته ومجيئه، فاليهود كانوا يتوهّمون أن المسيح يكون ملكاً جباراً ينقذهم من نير روما ويرفعهم إلى ذُرى المجد الدنيوي, أما المسيح فقال إنه يأتي في السحاب إشارة إلى النقمة التي تحل بهم لانحرافهم عن الحق, وقد استعمل هذه العبارة للدلالة على البلايا التي تحل باليهود كأمة (متى 24: 30),
أما قوله: تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء فهو مقتبس من نبوات دانيال في كلامه عن مجيء المسيح، وبيان ذلك أنه لما استفهم رئيس الكهنة من المسيح عما إذا كان هو المسيح، أجابه بالإيجاب، وأوضح له أنه هو المراد بنبوات دانيال, وقد كان الجميع يعرفون أن نبوات دانيال تشير إلى مجيء المسيح في ملكوته, والمسيح ذاته أطلق عبارات هذه النبوة على ذاته قبل التجلي (متى 16: 28),
وأطلق هذه النبوة على نفسه مرة أخرى لما تنبأ على خراب أورشليم، فقال إن ابن الإنسان يأتي على سحاب السماء بقوة ومجد كثير (متى 24: 30), وفي 26: 64 لما كان اليهود يحاكمونه قال: إنهم سيبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء , كأنه يقول: مع أني في أعينكم محتقر ومرذول ومُهان، ولم تصدقوني لما قلت إني المسيا، إلا أن دعواي صحيحة، لأنها مبنيّة على أساسٍ حقيقي، والدليل على ذلك أنكم ستبصرون ابن الإنسان (أي المسيا) آتياً، ولكن ليس بالكيفية التي انتظرتم بها مجيئه، بل يأتي في سحاب السماء، وستحل بكم النقمة التي ظننتم حلولها بأعدائكم,
ومما يدل على أن اليهود فهموا ما قصده المسيح، أنهم استشاطوا غيظاً، حتى مزق رئيس الكهنة ثيابه قائلاً: إنه قد جدّف! ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ ها قد سمعتم تجديفه, ماذا ترون؟ فأجابوا: إنه مستوجب الموت, حينئذ بصقوا في وجهه , وسبب ذلك هو أنه هدم آمالهم الجسدية الدنيوية,
قال المعترض الغير مؤمن: اختلف الإنجيليون الأربعة في إنكار بطرس عدة اختلافات,
ورد في إنجيل متى 26: 69-75 أما بطرس فكان جالساً خارجاً في الدار، فجاءت إليه جارية قائلة: وأنت كنت مع يسوع الجليلي, فأنكر قدام الجميع قائلاً: لست أدري ما تقولين, ثم إذ خرج إلى الدهليز رأته أخرى، فقالت للذين هناك: وهذا كان مع يسوع الناصري, فأنكر أيضاً بقَسَم: إني لستُ أعرف الرجل, وبعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس: حقاً أنت أيضاً منهم، فإن لغتك تظهرك, فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف: إني لا أعرف الرجل, وللوقت صاح الديك، فتذكر بطرس كلام يسوع الذي قال له إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات ,
وورد في مرقس 14: 66-72 وبينما كان بطرس في الدار أسفل، جاءت إحدى جواري رئيس الكهنة, فلما رأت بطرس يستدفئ نظرت إليه وقالت: وأنت كنت مع يسوع الناصري, فأنكر قائلاً: لست أدري ولا أفهم ما تقولين, وخرج خارجاً إلى الدهليز فصاح الديك، فرأته الجارية أيضاً وابتدأت تقول للحاضرين: إن هذا منهم، فأنكر أيضاً, وبعد قليل أيضاً قال الحاضرون لبطرس: حقاً أنت منهم لأنك جليلي أيضاً، ولغتك تشبه لغتهم, فابتدأ يلعن ويحلف: إني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولون عنه, وصاح الديك ثانية، فتذكر بطرس القول الذي قاله يسوع: إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات ,
وورد في لوقا 22: 54-61 وأما بطرس فتبعه من بعيد, ولما أضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا معاً، جلس بطرس بينهم، فرأته جارية جالسة عند النار، فتفرست فيه وقالت: وهذا كان معه، فأنكره قائلاً: لست أعرفه يا امرأة, وبعد قليل رآه آخر وقال: وأنت منهم, فقال بطرس: يا إنسان! لست أنا, ولما مضى نحو ساعة واحدة أكد آخر قائلاً: بالحق إن هذا أيضاً كان معه، لأنه جليلي أيضاً, فقال بطرس يا إنسان! لست أعرف ما تقول، وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك، فالتفت الرب ونظر إلى بطرس، فتذكر بطرس كلام الرب: كيف قال له إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات ,
وورد في يوحنا 18: 16 و17 أما بطرس فكان واقفاً خارجاً، فخرج التلميذ الآخرالذي كان معروفاً عند رئيس الكهنة وكلم البوَّابة فأدخل بطرس, فقالت الجارية البوَّابة لبطرس: ألست أنت أيضاً من تلاميذ هذا الإنسان؟ قال ذاك: لست أنا , وفي آية 25 وسمعان بطرس كان يصطلي، فقالوا له:ألست أنت أيضاً من تلاميذه؟ فأنكر ذاك وقال: لست أنا , فقال واحد من عبيد رئيس الكهنة: أما رأيتُك أنا معه في البستان؟ فأنكر بطرس أيضاً, وللوقت صاح الديك ,
وهذه الاختلافات هي:
(1) يُفهم من رواية متى ومرقس أن جاريتين والرجال القيام كلَّموا بطرس، أما لوقا فقال إنهم جارية ورجلان,
(2) كان بطرس وقت سؤال الجارية في ساحة الدار حسب رواية متى، وفي وسط الدار على رواية لوقا، وأسفل الدار على رواية مرقس، وداخل الدار على رواية يوحنا,
(3) اختلفوا في الأسئلة الموجَّهة لبطرس,
(4) كان صياح الديك بعد إنكار بطرس ثلاث مرات على رواية متى ولوقا ويوحنا، وكان صياحه مرة بعد إنكار بطرس الأول، ومرة أخرى بعد إنكاره مرتين، على رواية مرقس,
(5) قال متى ولوقا إن المسيح قال: قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات , وقال مرقس إنه قال: قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات ,
(6) جواب بطرس للجارية حسب رواية متى لست أدري ما تقولين وعلى رواية يوحنا أجاب بالسلب فقط، وعلى رواية مرقس لست أدري ما تقولين وعلى رواية لوقا لست أعرف يا امرأة ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) اتفق الإنجيليون على عدد مرات إنكار بطرس لسيده، وأجمعوا على أن إنكاره كان قبل أن يصيح الديك, وتمت بذلك نبوة المسيح أن بطرس سينكره ثلاث مرات، وقبل صياح الديك,
لقد قال المسيح (له المجد) العبارتين: قال إن بطرس سينكره قبل أن يصيح ديك، وإنه ينكره قبل أن يصيح الديك مرتين, وذكر متى إحدى العبارتين، وذكر مرقس العبارة الأخرى, ومما يجدر ذكره أن لوقا ويوحنا أوردا قول المسيح بنفس الصيغة الواردة في متى, وقبل الجزم بأن أحد البشيرين يناقض البقية يجب أن نأتي بالدليل على أن المسيح لم يقل هذه العبارة إلا مرة واحدة، وإلا فلا تناقض,
فيصح أن نتصور ما يأتي: أنذر المسيح بطرس أنه قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات, ولما كان بطرس سريع التأثر ثار لما سمع هذا، وكأنه يقول: هل أنا أنكر سيدي؟ إن هذا مُحال! ولو اضطُررت أن أموت لا أنكرك , وعندئذ كرر المسيح الإنذار، وأضاف تفصيلاً آخر بقوله: يا بطرس، قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات, ويترجح جداً أنه قد تُبودلت عبارات كثيرة بين بطرس وسيده بصدد هذه النقطة الخطيرة, ولا شك أن المسيح قال لبطرس نفس العبارة الواردة في متى ولوقا ويوحنا، والعبارة الواردة في مرقس أيضاً,
ولنورد حلاً آخر، وهو أن متى ولوقا ويوحنا أوردوا إعلان المسيح لبطرس أنه سينكره بصيغة عامة، أما مرقس (فكما هي عادته) أورد العبارة بالتدقيق, وكما نراه في روايات أخرى يورد تفصيلات دقيقة لا نراها في بقية البشائر، هكذا أيضاً أورد في هذه القضية لفظة دقيقة لم يوردها غيره, وعلاوة على هذا يجب أن نتذكر أن بشارة مرقس (كما يفيد التقليد) كُتبت تحت إشراف بطرس, ولذا نرى فيها أسلوب بطرس ولهجته، وإذ ذاك لا نستغرب عندما نجد أن العبارة المقولة لبطرس واردة في هذه البشارة بدقة أكثر من سواها,
(2) اقتصر لوقا البشير على ذكر المرة التي أنكر فيها بطرس سيده صراحة وبشدة، لأنها كانت أهم من المرة الأولى, وهذا لا ينافي أن جاريتين سألتاه مرتين, أما متى ومرقس فذكرا الحالتين, وعليه فلا اختلاف، فإن الاختلاف لا يتحققإلا إذا نفى الواحد ما أثبته الآخر, وهنا اقتصر لوقا على ذكر الأهم، وأما الآخرون فذكروا كل شيء بالتفصيل,
(3) قال لوقا إن رجلين سألاه عن نسبته إلى سيده، وقال متى ومرقس إن الرجال سألوه، فعبارتهما تتضمن أن رجلين سألاه نيابةً عن باقي الجمهور، فلا نتصوَّر أن الجمهور سألوا بطرس مرة واحدة,
(4) قال متى: إنه كان خارجاً في الدار، وقال مرقس: في الدار أسفل، وقال لوقا: في وسط الدار، وقال يوحنا: إنه كان واقفاً عند الباب خارجاً، فخرج التلميذ وكلَّم البوَّابة فأدخل بطرس (آية 16), فلا يوجد اختلاف, بطرس كان حسب قول متى خارجاً في الدار، أي ليس في الدار الفوقاني الذي كان فيه المسيح والمجلس, ومما يدل على أنه كان في صحن الدار قول متى إنه لما ضايق اليهود بطرس خرج إلى الدهليز ، فهذا يدل على أنه كان في الدار, ولم يقل البشير إن بطرس كان خارج الدار، بل خارجاً في الدار أي خارجاً عن المخادع, وبما أنه كان في المحل التحتاني (أي صحن الدار) فيصح أن يُطلق عليه أسفل الدار, ولايخفى أن معنى صحن الدار هو أسفله، وهو لا ينافي أنه كان جالساً في وسطه يستدفيء على النار, وقصد الرسل أنه لم يكن في الدور المرتفع الفوقاني الذي كان فيه المجلس، بل كان في مكان الخدم، وهو الصحيح,
(5) من تأمل الأسئلة الموجَّهة لبطرس وجدها واحدة، ففي متى قالت الجارية: وأنت كنت مع يسوع الجليلي , ثم قالت أخرى: وهذا كان مع يسوع الناصري , وقال القيام (أي الحراس): أنت أيضاً منهم فإن لغتك تظهرك , هذه هي رواية متى,
أما مرقس فذكر أن الجارية قالت: أنت كنت مع يسوع الناصري , ثم رأته ثانية وقالت للحاضرين: إن هذا منهم , وقال الحاضرون لبطرس: حقاً أنت منهم لأنك جليلي أيضاً ولغتك تشبه لغتهم , وقس على ذلك ماورد في إنجيل لوقا ويوحنا، فإنه لا يختلف عن ذلك في شيء ما,
(6) أنكر بطرس المسيح ثلاث مرات قبل صياح الديك، غير أن بعضهم ذكر أن الديك صاح مرتين واقتصر البعض الآخر على ذكر صياح الديك مرة، وسبب ذلك هو أن الديوك تصيح مرتين، مرة عند قدوم الصبح ومرة عند طلوع النهار, وبما أنه يندر من يسمع صياحه أول مرة، ضرب بعض البشيرين عنه صفحاً, والمهم هو الصياح الثاني وقد ذكره جميع البشيرين، وهذا لاينافي أنه صاح قبلها,
(7) إجابات بطرس واضحة متشابهة لا فرق بينها, وبما أن كثيرين من الخدم والحاضرين أخذوا يعنفونه ويضايقونه، فزع وتلعثم في الكلام، وهو يبرئ نفسه بأساليب متنوعة في الوضوح والخفاء، فتارة ينكر، وأخرى يحلف ليتخلّص من ظلم اليهود, وكان ينتقل من مكان لآخر ليواري نفسه ويتخلص من مأزقه,
(8) وهكذا يتضح عدم وجود اختلاف في أقوال البشيرين، فكل واحد منهم ذكر أقوال الوحي الإلهي بحسب روحه ونَفَسه، فإن الوحي لا يبتلع شخصية الإنسان, فالله يوحي للنبي أو الرسول المعاني والأحكام، ويكون في يد الله بمنزلة القلم في يد الكاتب، فتُحفظ شخصيته، ويظهر في كتابته ما اختص به من القوى العقلية وطرق الفكر والتصوّر, وهذا هو سبب تنوّع طرق تعبير الأنبياء, وكلامنا هنا هو عن الأنبياء أو الرسل بصيغة الجمع, أما إذا اختلف رسول أو نبي في أقواله وعباراته، فهذا هو الذي يُؤاخذ عليه، لأنه ناقض نفسه
قال المعترض الغير مؤمن: يؤخذ من إنجيل متى 27: 3 أن رؤساء الكهنة اشتروا الحقل بالثلاثين من الفضة التي ردَّها يهوذا، ويُعلم من أعمال الرسل 1: 18 أن يهوذا كان اشترى الحقل بها، فإنه قيل: وهذا معلوم في جميع سكان أورشليم ,
وللرد نقول بنعمة الله : نص أعمال 1: 18 فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها، وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم , فنسب إليه الاقتناء لأنه كان السبب فيه, وكثيراً ما يُنسب إلى الإنسان الفعل لأنه السبب فيه، فنُسب إلى الملك بناء القصر مع أنه ليس هو الباني حقيقة، ولكنه يأمر به,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في إنجيل متى 27: 3 أنه حُكم على المسيح وأنه دين، وهو غلط، لأن رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب دفعوه إلى بيلاطس البنطي ,
وللرد نقول بنعمة الله : مَن طالع متى 27: 67 يرى أن الكهنة والشيوخ والرؤساء والمجمع أتوا بشهادات زور عليه، حتى مزّق رئيس الكهنة ثيابه، لأنه ادّعى على المسيح أنه مجدف, وبصقوا في وجهه ولكموه ولطموه، وحكموا عليه بالموت, فهم الذين حكموا عليه حتى تعذّر على الوالي إطلاق سبيله بعد ذلك، مع أنه كان يميل إلى إطلاقه، فوافقهم حسماً للدسائس والفتن، وطمعاً في محبتهم له,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 27: 3 أن يهوذا ردّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ في الهيكل، وهو غلط لأنهم كانوا في هذا الوقت عند بيلاطس يشتكون على المسيح ,
وللرد نقول بنعمة الله : ورد في متى 27: 5: فطرح الفضة في الهيكل وانصرف أي أنه أوردها في خزينة الهيكل باسم أئمة الدين، سواء كانوا حاضرين أم غائبين,
قال المعترض الغير مؤمن: سياق العبارة في متى 27: 3-11 يدل على أن الفقرة كلها أجنبية على النص ,
وللرد نقول بنعمة الله : الكلام مرتبط ببعضه، فإنه ذكر في الآيتين السابقتين ما كان من اليهود في اضطهاد المسيح، وتسليمهم إياه للحاكم, وفي آية 3-10 ذكر أنه لما رأى يهوذا ما حصل لسيده ندم وتأسف وانتحر, وذكر في آية 11 وقوف المسيح أمام الوالي، وهكذا روى الوقائع بحسب زمان حدوثها,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 27: 5 أن يهوذا انتحر صباح الليلة التي أسلم فيها المسيح, وغير معقول أن يندم على فعله في هذه المدة القليلة ويخنق نفسه، لأنه كان عالماً قبل التسليم أن اليهود يقتلونه ,
وللرد نقول بنعمة الله : لو قال الكتاب المقدس إنه لبث أسبوعاً يتحسر ويتأسف على غدره وخيانته، لاستبعدنا انتحاره، ولكنه لما رأى أنه خان سيده الذي لم ير منه مدة معاشرته سوى اللطف والمحبة والرحمة والإحسان والسماحة والآيات الباهرة، انتحر من شدة تحسّره ونخسات الضمير,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في إنجيل متى 27: 5 أن يهوذا الاسخريوطي مضى وخنق نفسه ولكن ورد في أعمال 1: 18 وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها ,
وللرد نقول بنعمة الله : ذكر متى مجرد خبر انتحاره، فقال إنه شنق نفسه، واقتصر على ذلك لأن غايته هي مجرّد إفادة المطالع خبراً من الأخبار, أما في أعمال الرسل فالمقام كان مقام تنفير من ذلك العمل الوخيم، فأوضح أنه مات أشنع ميتة وأفظعها, فإذا طالع الإنسان حال المنتحرين، ونظر ما يؤول إليه الخائن المنتحر، عَدَل عن الانتحار ولم يَرْض لنفسه انشقاق البطن وخروج أمعائه منها,
ذكر متى مجرد انتحار يهوذا وشنق نفسه، وذكر أعمال الرسل الأمر بتفصيل، فإنه علق نفسه وشنقها على طرف هوة في وادي هنوم، فانقطع الحبل به فسقط,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 27: 9 حينئذ تم ما قيل بإرميا النبي القائل: وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمَّن الذي ثمنوه من بني إسرائيل , ولفظ إرميا غلط، فإن العبارة المستشهَد بها هي من زكريا، والأغلب أن عبارة متى كانت بدون ذكر اسم النبي ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) من اصطلاحات علماء اليهود القديمة أنهم كانوا يقسمون الكتب المقدسة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول شريعة موسى، وكانوا يسمونها الشريعة , والقسم الثاني المزامير ، والقسم الثالث قسم الأنبياء ويُسَمَّى إرميا، من إطلاق إسم سفر من الجزء على الكل, وسبب تسمية قسم الأنبياء إرميا أنهم ذكروا نبواته أول الأنبياء على هذا الترتيب: إرميا وحزقيال وإشعياء، ثم نبوات الأنبياء الصغار الإثنى عشر, فقول متى: تمّ ما قيل بإرميا النبي يشمل زكريا, والعبارة التي استشهد بها هي واردة في زكريا 11: 12 و13,
(2) قُرىء في هذا المكان زكريا لأنه جرت العادة أن يكتبوا كلمة إرميا باللغة اليونانية ايريو وكلمة زكريا زيريو ، وربما نشأ هذا الاختلاف عن ذلك,
(3) ذهب البعض إلى أن إرميا هو الذي تكلم بهذه الكلمات، وأن زكريا نقل عنه, فاستشهاد البشير متى بإرميا هو في محله على أي حالة كانت,
ومعنى عبارة زكريا هو أن الله أمره أن يتوجَّه إلى اليهود بشيراً ونذيراً، فنبذوا كلامه وازدروا به, وطلب منهم أن يعطوه ثمنه أي قيمة أتعابه، أو يلبوا دعوته، ولكنهم ازدروا به وبوظيفته وبالله الذي أرسله بأن أعطوه ثلاثين من الفضة (وهي ثمن العبد والرق), فأمره الله أن يلقي هذا الثمن إلى الفخاري, وعلى هذا المثال سلكوا مع المسيح، فإنه لما أتى رفضوه وأظهروا ازدراءهم به، بأن ثمَّنوه بثمن عبد، فألقى هذا الثمن في الهيكل, وأخذه الكهنة واشتروا به حقل الفخاري وهو لا قيمة له، وهذا يدل على استخفافهم به ورفضهم دعوته,
قال المعترض الغير مؤمن: يُفهم من كلام متى ومرقس أن الذين استهزأوا بالمسيح وألبسوه اللباس كانوا جند بيلاطس لا هيرودس، ويُعلم من كلام لوقا خلاف ذلك, وورد في متى 27: 27 و28 أن عسكر الوالي ألبسوه رداءً قرمزياً، وفي مرقس 15: 16 و17 ألبسه العسكر أرجواناً، وفي لوقا 23: 11 فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأوا به، وألبسه لباساً لامعاً ورده إلى بيلاطس ,
وللرد نقول بنعمة الله : احتقره عساكر بيلاطس، وكذلك هيرودس وعساكره، لأن حكمة المسيح اقتضت أن لا يشفي غليل هيرودس بعمل معجزة أمامه، لأن غايته كانت التفرّج، لا الوقوف على الحق, واقتصر لوقا على ذكر ما حصل له من الازدراء, وعلى كل حال فلا منافاة بين أقوال الرسل، لأنه لم يقل أحدهم إنه حصلت له إهانة وقال الآخر حصل له تبجيل وتكريم، بل أجمع جميعهم على حصول الإهانة له,
ويذكر متى أن لون رداء المسيح كان قرمزياً، ويذكر مرقس أنه كان من قماش الأرجوان، ويصف لوقا الرداء الأرجواني القرمزي بأنه كان لامعاً,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 27: 34 أعطوه خلاً ممزوجاً بمرارة ليشرب، ولما ذاق لم يرد أن يشرب , وورد في آية 48 ركض واحد منهم وأخذ إسفنجة وملأها خلاً وجعلها على قصبة وسقاه , وورد في مرقس 15: 23 وأعطوه خمراً ممزوجاً بمرٍّ ليشرب فلم يقبل , وورد في آية 36 فركض واحد وملأ أسفنجة خلاً وجعلها على قصبة وسقاه، وفي لوقا 23: 36 والجند استهزأوا به، وهم يأتون ويقدمون له خلاً وفي يوحنا 19: 28-30 إن المسيح قال: أنا عطشان، وكان إناءٌ موضوعاًمملوءاً خلاً، فملأوا إسفنجة من الخل ووضعوها على زوفا وقدموها إلى فمه، فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أُكمل ,
وللرد نقول بنعمة الله : قُدِّم الخل للمسيح مرتين، في الأولى قدموا له خلاً ممزوجاً بمر، فإنه كانت عادتهم أن يقدموا لمن حُكم عليه بالإعدام هذا الخل الممزوج بالمر ليغيّبه عن الوعي، لتخفيف آلامه, فالمسيح رفض ذلك، لأنه أراد أن يكون يقظاً، ينطق بكلماته السبع على الصليب، ولأنه أتى ليتألم ويحمل في جسده العقاب الذي كنا نستوجبه بسبب خطايانا, أما في المرة الثانية فعطش من شدة الألم على الصليب، فأعطوه خلاً من مشروب العساكر فشربه,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 27: 35 ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها، لكي يتم ما قيل بالنبي: اقتسموا ثيابي وعلى لباسي ألقوا قرعة , فقال آدم كلارك إن قوله لكي يتم بالنبي اقتسموا ثيابي وعلى لباسي ألقوا قرعة يجب حذفها لأنها ليست في المتن، وهي مأخوذة من إنجيل يوحنا 19: 24 ,
وللرد نقول بنعمة الله : ثبت في النسخ المعتبرة والقراءات الصحيحة ورود هذه العبارة النبوية، وهي في الأصل في مزمور 22: 18, نعم لم توجد في بعض النسخ, فإذا سلمنا جدلاً أنها لم تكن موجودة في الأصل، فهي من المدرج الجائز الذي قُصد به التفسير, هي واردة في إنجيل يوحنا وقد تمت فعلاً في شخص المسيح، فإن تصرف العساكر كان متمماً لقول النبي داود,
قال المعترض الغير مؤمن: العنوان الذي كتبه بيلاطس ووضعه على الصليب في الأناجيل الأربعة مختلف، ففي متى 27: 37 يسوع ملك اليهود وفي مرقس 15: 26 ملك اليهود وفي لوقا 23: 38 هذا هو ملك اليهود وفي يوحنا 19: 19 يسوع الناصري ملك اليهود , وهذا تناقض ,
وللرد نقول بنعمة الله : ذكر جميع البشيرين كلمة ملك اليهود ، لأنه هو موضوع اتهام اليهود، فإنهم اتخذوا ذلك حجة في صلبه, أما كونه ناصرياً، أو أنه سُمي يسوع أي المخلص، فلم يتخذوه سبباً في صلب المسيح، ولكن الدعوة المهمة هي ادعاء المُلك, فلو ضرب أحد البشيرين عنه صفحاً لساغ الاعتراض,
وكان أول معترض بهذا الاعتراض شخص من الكفرة اسمه توماس بين، وهو أمريكي مؤلف كتاب حقوق الإنسان , فردّ عليه أحد العلماء قائلاً: إن الخلاف الموجود في الأناجيل لفظي، ناشيء عن كتابة هذا العنوان بالعبرية واليونانية واللاتينية, ومع أن معناها واحد إلا أن الترجمة لا تسلم من الاختلاف اللفظي, فإذا فرضنا أن المقادير قضت عليك بأن يشنقك روبسبير وكتب فوق المشنقة باللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية توماس بين الأمريكي مؤلف حقوق الإنسان , وشاهد أربعة أشخاص إنفاذ الحكم بالإعدام، ورووا هذه الحادثة، وكتبوا ملخص تاريخك بعد وفاتك بعشرين سنة، فقال أحدهم إن توماس شُنق، وكان عنوان المشنقة هذا هو توماس بين مؤلف حقوق الإنسان وقال الثاني كان عنوانها مؤلف حقوق الإنسان وقال الثالث كان عنوانها هذا هو مؤلف حقوق الإنسان وقال الرابع كان عنوانها توماس بين الأمريكي مؤلف حقوق الإنسان - فهل يرتاب أحد في صحة تأليفهم لتاريخك؟ لا نظن ذلك, فكذلك الحال هنا فإن الله يخاطبنا حسب الطرق المصطلح عليها بين الناس ,
ومن هنا يتضح أن دأب المعترض نقل اعتراضات الكفرة وغض الطرف عن الردود عليها,
قال المعترض الغير مؤمن: قال متى 27: 44 ومرقس 15: 32 إن اللصين اللذين صُلبا معه كانا يعيّرانه، وقال لوقا إن أحدهما عيّره وأما الآخر فزجر رفيقه وقال ليسوع: اذكرني يارب متى جئت في ملكوتك , فقال له يسوع: إنك اليوم تكون معي في الفردوس (لوقا 23: 42 و43), وهذا تناقض ,
وللرد نقول بنعمة الله : اشترك اللصان أول الأمر في التعيير، ولكن لما اقتنع أحدهما بما رآه في يسوع المسيح من الوداعة والحلم، وتذكر ما صنعه من المعجزات الباهرة، اعترف بذنبه وأقرّ بقوة المسيح له المجد, ولكن قال بعض العلماء: اشتهر في اللغة العبرية إقامة الجمع مقام المفرد، وجرى البشير متى على هذه الطريقة، فقال في موضع آخر كما هو مكتوب في الأنبياء، ومراده نبي واحد,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 27: 46 ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي، إيلي، لما شبقتني، أي إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ وفي مرقس 15: 34 إلُوي إلوي لما شبقتني، الذي تفسيره إلهي إلهي لماذا تركتني وفي لوقا 23: 46 ونادى يسوع بصوت عظيم وقال: يا أبتاه في يديك أستودع روحي , وهذا تناقض ,
وللرد نقول بنعمة الله : لما كان المسيح على الصليب صرخ مرتين، المرة الأولى كان صراخ التوجع من آلام الصلب، والمرة الثانية صراخ تسليم الروح, ففي المرة الأولى ذكر الآية الواردة في مزمور22: 1 وهي إلهي إلهي لماذا تركتني؟ لأنه كان إنساناً مثلنا في كل شيء، ماعدا الخطية, فلما جلدوه وضربوه واستهزأوا به وعيّروه، تألم من ذلك كإنسان, ومما زاد توجّعه وتألمه أنه حمل خطايانا على جسده, قال إشعياء النبي في 53: 4 ، 5 لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها، ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل أثامنا, تأديب سلامنا عليه وبحُبُره شُفينا , وصار ذبيحة عن خطايانا كما في غلاطية 3: 13 وفي 2كورنثوس 5: 21 لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطيةً لأجلنا (أي ذبيحة خطية) لنصير نحن برّ الله فيه , فشدة آلام المسيح ناشئة عن وضع خطايانا عليه، فهذا هو صراخ التوجّع، وقد ذكره متى ومرقس، بل قالا أيضاً إنه صرخ مرة ثانية وأسلم الروح, أما لوقا فذكر توجّعه وتألمه (وهو لا ينافي أنه صرخ في أثناء ذلك) ثم قال لوقا إنه قبل أن أسلم الروح صرخ قائلاً: في يديك أستودع روحي ,
انظر تعليقنا على يوحنا 20: 17
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 27: 51-53 وإذا حجاب الهيكل قد انشقّ إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين , وقال نورتن إن هذه الحكاية كاذبة، والغالب أنها كانت رائجة بين اليهود بعد ما صارت أورشليم خراباً, فلعل أحداً كتبها في حاشية النسخة العبرية لإنجيل متى، وأدخلها الكاتب في المتن ,
وللرد نقول بنعمة الله : هذه الأقوال ثابتة في متن جميع النسخ القديمة، فإنكارها هو إنكار للحقائق الثابتة بالإجماع والتواتر والأسانيد الثابتة الصحيحة, ولا نتعجب إذا لم يصدق الكفرة هذه الأقوال لأنهم يرفضون المعجزات عموماً, ولكننا نتعجب من الأمة اليهودية التي قاومت المسيح وكفرت به رغم ما أجراه بينهم من معجزات,
(1) جاء المسيح إلى هذا العالم للفداء العظيم الذي لا يمكن حصوله إلا بتقديم نفسه ذبيحة عن الخطيئة، فصَلْبه كان لا بد منه,
(2) كان بيلاطس مقتنعاً ببراءة المسيح، وبذل الجهد لإقناع الأمة اليهودية ببراءته، ولكنهم هاجوا وماجوا، فلبّى طلبهم لتسكين الثورة,
(3) خشي بيلاطس أن يسمع امبراطور روما أنه دافع عن شخص ادَّعى المُلك، فيتهمه بعدم الولاء له، فرأى بيلاطس أن الأوْلى أن يتلافى الأمور، ويُرضي الجمهور ويسلّم لهم يسوع, وكثيراً ما يغض ولاة الأمور الطرف عن الحق والعدل والاستقامة والصدق، مراعاةً لمقتضيات السياسة,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 27: 51-53 قيام الموتى القديسين وآيات عظيمة, فلو حدثت هذه فعلاً لآمن كثيرٌ من الرومان واليهود ,
وللرد نقول بنعمة الله : لو كان عمل المعجزات والآيات كافياً وحده في هداية الأنفس إلى الحق، لاهتدى فرعون وقومه إلى الحق وآمنوا بالإله الحي بسبب معجزات النبي موسى, ومع أن بني إسرائيل رأوا قوة الله القاهرة، إلا أنهم تركوه واتخذوا العجل إلهاً لهم, ومع أن المسيح كان يفتح أعين العميان ويشفي الأكمه ويقيم الموتى، إلا أن اليهود رفضوه وصلبوه,
ولا يخفى أن إقامة الموتى وتفتيح أعين العميان وشفاء المرضى بمجرد كلمة واحدة، وتسكين العواصف وغيرها من الآيات البينات، هي أعظم من انشقاق حجاب الهيكل وتشقيق الصخور وقيام الموتى من القبور, فالمعجزات ليست هي الواسطة الوحيدة في هداية الأنفس، بل الهدى هو هدى الرحمن,
اعتراضات على قصة القيامة
متى 28: 1-15 ومرقس 16: 1-11 ولوقا 24: 1-12 ويوحنا 20: 1-18
قد لا توجد في الكتاب قضية يشير إليها الملحدون لإثبات التناقض فيه أكثر من قضية قيامة المسيح بحسب الوارد عنها في البشائر الأربع:
لم ترد في أية بشارة على حِدة خلاصة شاملة لكل الحقائق المختصّة بقضية القيامة, متى يقول إن مريم المجدلية جاءت مع المريمات الأخريات إلى قبر المسيح في صباح ذلك اليوم العظيم, ومرقس يذكر بهذا الصدد مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة, ولوقا أورد أسماء مريم المجدلية ويونّا ومريم أم يعقوب, أما يوحنا فلا يذكر بهذا الصدد إلا اسم مريم المجدلية فقط, فهل نجد هنا تناقضاً؟ كلا! فالبشائر الأربع متفقة في إيراد اسم المجدلية, ثم إن مرقس ولوقا أوردا اسم مريم أم يعقوب التي يشير إليها متى بمريم الأخرى (متى 27: 56) بمعنى أن اسم مريم هذه قد ورد في ثلاث بشائر, إذاً يوجد اتفاق تام بين كل ما جاء في البشائر عن النساء اللاتي أتين إلى القبر, ولا ننكر أن مرقس انفرد بذكر سالومة بينهن، كما انفرد لوقا بذكر يونّا, ولكن هذا لا يدل على أن مرقس ولوقا متناقضان, كل ما في الأمر أن قول هذا يكمل قول ذاك, فسالومة كانت بين النساء في ذلك الصباح كما كانت يونّا أيضاً, ومع أن يوحنا لا يذكر إلا مريم المجدلية، إلا أنه يشير في كلامه إلى مصاحبة بعض رفيقات لها، إذ يقول إنها لما وجدت القبر فارغاً ركضت إلى بطرس ويوحنا وقالت لهما: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه (يوحنا 20: 2), فقولها: لسنا نعلم بصيغة الجمع يبيّن أنها لم تذهب وحدها,
وقد قال البعض بوجود تناقض بين يوحنا ومرقس في تعيين وقت ذهاب النساء إلى القبر, فمرقس يقول إنهن أتين عند طلوع الشمس، بينما يقول يوحنا إن مريم المجدلية جاءت إلى القبر والظلام باقٍ, ولكن لا تناقض بينهما، لأن يوحنا يتكلم عن وقت بدء السير إلى القبر، بينما مرقس يشير إلى وقت الوصول إليه, وبدهي أنه كان لا بد لأولئك النساء من قطع مسافة قبل الوصول إلى القبر، سواء كنَّ مقيمات في أورشليم أو في بيت عنيا التي تبعُد عنها قليلاً, فعندما بدأنَ في السير كان الظلام باقياً، ولكن عند وصولهن إلى القبر الواقع شمال أورشليم كانت الشمس على وشك الطلوع,
على أن النقطة التي كثر فيها البحث أكثر من سواها في هذا الموضوع هي الإشارة إلى الملاكين اللذين ظهرا للنساء وأخبراهنَّ عن القيامة, فمتى ومرقس يقولان إن ملاكاً واحداً كلّم النساء، بينما لوقا ويوحنا يذكران أن ملاكين كانا عند القبر وزفَّا بشارة القيامة إلى أولئك النساء, فيقول الملحدون إن هذا تناقض ظاهر, ولكن القارئ المدقق يرى خطأ قولهم هذا, هل متى ومرقس يقولان إنه لم يكن عند القبر إلا ملاك واحد؟ كلَّا, لأن إشارتهما إلى ملاك واحد لا تمنع إمكانية وجود ملاكين أو أكثر عند القبر, ولنتأمل فيما حدث عند ميلاد المسيح، إذ ظهر ملاك واحد للرعاة, وفي الحال ظهر معه جمهور من الجند السماوي, وربما كان سبب ذكر متى ملاكاً واحداً أن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه (متى 28: 2), فهو يخص بالإشارة هذا الملاك، وهو الذي كلم النساء, ولما كانت مأمورية الملاك هذه على جانب عظيم من الأهمية، ذكر متى هذا الملاك فقط، دون أن يعلّق أهمية على وجود سواه من الملائكة عند القبر, كما أن عدم إشارة مرقس إلى وجود ملاك آخر قد يكون راجعاً إلى اهتمامه بالملاك الذي حمل بشرى قيامة المسيح, ولعل ما كان مهماً في نظره هو أن النساء لم يتلقَّيْن هذه البشرى من أحد الرسل، بل من ملاك مرسَل من الله, فسواء كان عند القبر ملاك واحد أو ملاكان، هذا أمر ثانوي, ولا يخفى أن عدم الإشارة إلى وجود شخص ما في ظرف معيَّن لا ينفي وجوده, فلنفرض مثلاً أنك قد حظيت بالمثول بين يدي رئيس الدولة، وكان رئيس الوزراء ساعتئذ حاضراً, وعند رجوعك إلى البيت قد تقول لأهلك: رأيت رئيس الدولة، وقال لي كذا وكذا, وبعد قليل قد تقابل صديقاً لك وتقول له: رأيت هذا الصباح رئيس الدولة ورئيس الوزراء، وقالا لي كذا وكذا, وإذا قابلت صديقاً آخر تقول له: اُتيحت لي رؤية رئيس الدولة ورئيس الوزراء هذا الصباح، فقال لي رئيس الدولة كذا وكذا, فهل يجرؤ أحدٌ على اتّهامك بالتناقض في هذه الأقوال الثلاثة؟
وعليه يجب أن نعامل الكتاب المقدس عند الحكم على ما جاء به بمبدأ العدل الذي نطلبه لأنفسنا، فنجده خالياً من كل تناقض, فمن المحتمل في قضية القيامة أن أحد الملاكين هو الذي نطق بالبشارة, ومن المحتمل أيضاً أن الثاني كان يردّد كلام الأول تأييداً له, وكيفما كانت الحال، فالبشيرون لهم الحق أن يشيروا إلى أحدهما أو كليهما معاً,
ثم يوجد في موضوع القيامة نقطة أخرى قيل بوجود تناقض فيها، وهي قول يوحنا إن المسيح ظهر لمريم المجدلية عند القبر بعد رجوعها من عند بطرس ويوحنا، اللذين أخبرتهما بعدم وجود جسد السيد, بينما متى يقول إن المسيح ظهر للنساء وهن عائدات من القبر إلى الرسل حاملات بشرى القيامة من الملاك, ولا حاجة إلى الاسترسال في شرح نقطة ظاهرة كهذه, فعند رجوع مريم من القبر لتخبر التلاميذ بعدم وجود جسد الرب، دخلت باقي النساء القبر حيث رأين الملاكين اللذين أسمعاهنَّ بشرى القيامة, وفيما هن راكضات إلى التلاميذ بهذه البشرى رجعت مريم إلى القبر، وهناك ظهر لها الرب المقام,
وقد يعترض معترض على ما جاء في متى 28: 8 ومرقس 16: 8 حيث يقول متى إن النساء خرجن من القبر وركضن ليخبرن التلاميذ, بينما يقول مرقس إنهن لم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات, فمتى يقول إنهن حملن إلى التلاميذ بشرى الملاكين، ومرقس يقول إنهن لم يقلن لأحدٍ شيئاً, أما حل هذه العقدة المزعومة فسهل جداً:
إن إشارة مرقس تفيد وصف حالة النساء وهن راجعات، فلم يقفن في بيوت المعارف والأصدقاء ليخبرنهم بما رأين وسمعن، إذ كنّ مرتعدات,
ولا ريب في أن مرقس لم يقصد بإشارته هذه أن ينفي إخبارهن للتلاميذ, لأنه في مرقس 16: 7 يقول إن الملاك قال لهن: اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل , فإن كانت هؤلاء النساء لم يخبرن التلاميذ يكون هذا عصياناً منهن لأمر الرب, الأمر الذي لا يمكن صدوره من نساء تقيات أمثالهن!
قال المعترض الغير مؤمن: يُعلم من إنجيل متى 28: 1-7 أن مريم المجدلية ومريم الأخرى لما وصلتا إلى القبر نزل ملاك الرب ودحرج الحجر عن القبر وجلس عليه، وقال: لا تخافا أنتما,, اذهبا سريعاً قولا لتلاميذه , وفي مرقس 16: 1-5 إنهما وسالومة لما وصلن إلى القبر رأين أن الحجر قد دُحرج ولما دخلن القبر رأين شاباً جالساً عن اليمين, وفي لوقا 24: 1-4 إنهن لما وصلن وجدن الحجر مدحرجاً، فدخلن ولم يجدن جسد المسيح، فصرن محتارات، فإذا رجلان وقفا بهنّ بثياب برّاقة, وهذا تناقض
وللرد نقول بنعمة الله : تفيد عبارة متى أن الملاك كان قد دحرج الحجر قبل مجيء مريم المجدلية ومريم الأخرى، فإنهما لما أتتا إلى القبر حدثت زلزلة عظيمة، لأن ملاك الرب كان قد نزل من السماء ودحرج الحجر عن الباب، فجزع الحراس, وهذا مثل ما ورد في مرقس ولوقا,
أما من جهة النساء فذكر لوقا أنه أتت نساء أخريات، واقتصر بعض البشيرين على ذكر البعض لشهرتهنّ، مثل مريم المجدلية لأنها كانت أول من بادر بتبليغ الرسل,
أما اقتصار البعض على ذكر ملاك واحد دون الآخر فلأنه هو الذي خاطبهم وكلمهم، إذ لا يُعقل أن يتكلم الملاكان في آن واحد ذات الكلام عينه,
أما قول بعض البشيرين إنه رجل لابس ثياباً بيضاء، وفي محل آخر يقول إنه ملاك، قلنا إن الملاك يتشكل بشكل الإنسان, والملائكة هم أجساد لطيفة قادرة على التشكّل بصور مختلفة، فرآهم الرسل كذلك,
قال المعترض الغير مؤمن: هناك تناقض بين متى 28: 8 ومرقس 16: 8, يقول متى 28: 8 إن النسوة خرجن من القبر بسرعة ليخبرن التلاميذ، بينما يقول مرقس 16: 8 إن النسوة هربن خائفات، ولم يقلن لأحد شيئاً,
وللرد نقول بنعمة الله : يصف مرقس مشاعر النسوة وهن راجعات من القبر، فلم يتوقفن عند بيوت الأصدقاء لإفادتهم بما رأين و سمعن، لأنهن كنّ خائفات ولا يقول مرقس إن النسوة لم يخبرن التلاميذ، ففي مرقس 16: 7 يقول إن الملاك أمرهنّ بإخبار التلاميذ وبطرس أن المسيح سبقهم إلى الجليل, ولو لم تخبر النسوة التلاميذ ببشارة الملاك لكان هذا عصياناً منهن، وهذا غير معقول، فالنسوة كنّ طائعات محبّات للمسيح و للتلاميذ، و لا بد أنهن أبلغن رسالة الملاك,
قال المعترض الغير مؤمن: ورد في متى 28: 9 و10 أن الملاك لما أخبر المرأتين أنه قد قام من الأموات، ورجعتا، لاقاهما المسيح في الطريق وسلم عليهما، وقال: اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني , ويُعلم من لوقا 24: 9-11 أنهن لما سمعن من الرجلين رجعن وأخبرن الأحد عشر وسائر التلاميذ بهذا كله فلم يصدقوهن, وقال يوحنا 20: 14 إن المسيح لقي مريم عند القبر ,
وللرد نقول بنعمة الله : لاقاهن المسيح لما تركن القبر المرة الثانية، فإنهن أتين أول مرة، ثم بادرن وأخبرن التلاميذ، ثم عُدْن ثانية, فالمسيح ظهر أولاً لمريم المجدلية لما كانت وحدها (يوحنا 20: 14) ثم ظهر لباقي النساء كما قال متى,
قال المعترض الغير مؤمن: جاء في متى 28: 10 و16 و17 فقال لهما يسوع لا تخافا, اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل، وهناك يرونني,,, وأما الأحد عشر تلميذاً فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل حيث أمرهم يسوع, ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكّوا ,
ولكن جاء في يوحنا 20: 19 ولما كانت عشية ذلك اليوم، وهو أول الأسبوع، وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم: سلام لكم ,
وللرد نقول بنعمة الله : هذه الفصول تتضمن ظهور الرب لتلاميذه بعد قيامته, والنقطة الوحيدة التي قد يجد فيها القارئ شيئاً من الصعوبة هي عدم إشارة متى إلى ظهور الرب للتلاميذ في أورشليم, ولكن هل نفى متى هذه الحقيقة؟ كلَّا, ولو أننا لا نعلم سبب إغفاله ذكر ظهور الرب في أورشليم بعد قيامته, ولكن واضح تماماً أنه لا تناقض من هذا القبيل بينه وبين يوحنا, كل ما في الأمر أن رواية يوحنا أوفى من روايته,