إضافة بسيطة بعد ما ذكرته أمنا الغالية
أمة، فقد التقطت بعض إشارات أثناء دراستي لمسألة الطوفان ويسعدني أن أشارك أيضا بها، لعلها تلقي مزيدا من الضوء على طبيعة ما حدث:
1. في البداية ـ مباشرة قبل سردية الطوفان ـ يقول الكتاب: فقال الرب: لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه، هو بشر. وتكون أيامه مئة وعشرين سنة.
2. في النهاية ـ مباشرة بعد انتهاء الطوفان ـ يقول في عبارة أخرى غامضة: مدة كل أيام الأرض: زرع وحصاد، وبرد وحر، وصيف وشتاء، ونهار وليل، لا تزال.
3. في المدراش الكبير (مدراش هاجَدول) وكذلك التلمود (سنهدرين) يقول الأحبار عن الأيام السبعة الأخيرة مباشرة قبل الطوفان: خلال هذه الأيام السبعة غير الله نظام الأشياء الطبيعي، إذ حوّل النهار إلى ليل والليل إلى نهار، لعل الأشرار يذكرون انحرافهم.
4. أما حين جاءت الضربة أخيرا وتفجّرت المياه من أسفل ومن أعلى، هناك عبارة في نفس المدراش (هاجَدول) وكذلك التلمود بموضع آخر (بيراكوت) تقول: عبر إزاحة نجمين في كوكبة كيماه (الثريا) جاء الله بالطوفان.
.
الآن بالنظر إلى هذه الإشارات الأربعة فقط ـ ولم ندخل بعد إلى كتب الأبوكريفا أو أساطير الطوفان حول العالم شرقا وغربا ـ يمكننا استنتاج أن الطوفان كان في الحقيقة
حدثا كونيا لا مجرد فيضان أرضي. أو بعبارة أخرى: ما حدث على الأرض كان نتيجة لما حدث أولا في السماء. نستطيع من ثم سرد القصة كلها مرة أخرى ـ بلغة عصرية ـ فنقول: هناك أولا
نجمان (وربما أكثر) تحركا من مكانهما بالسماء، واقتربا على الأرجح من الأرض. سيان اقتربا أو ابتعدا، في الحالتين اختلت
قوى الجاذبية بين الكواكب المختلقة بسبب هذا الحركة. بالطبع حركة نجم واحد كانت تكفي تماما كي يتفجر على الأرض طوفان عارم، أما وقد تحرك نجمان معا فقد كان اختلال الجاذبية هائلا، عنيفا إلى الحد الذي "انقلب" معه
محور الأرض المغناطيسي نفسه، أي صار الشمال جنوبا والجنوب شمالا!
هذا ما يفسر كيف
"تحول النهار إلى ليل والليل إلى نهار" حسب قول الأحبار، وهو نفس المقصود في بعض المرويات الإسلامية عن "علامات الساعة": حيث "تشرق الشمس من المغرب وتغرب في المشرق". تفسير هذه الظاهرة ببساطة هو
انقلاب محور الأرض نفسها. هكذا فقط "سيبدو" على الأرض كأن الليل تحول إلى نهار، أو كأن الشمس أشرقت من الغرب. رصدت بالفعل بعض الحضارات القديمة هذا الانقلاب وكتبت عنه، كحضارة "المايا"، التي ذكرت أنه يحدث حتى دوريا إذا اصطفت الكواكب على نحو معين، أي أذا اختلت أيضا قوى الجاذبية فيما بينها نتيجة هذا الاصطفاف.*
غني عن البيان أن اختلال قوى الجاذبية وانقلاب محور الأرض هكذا يعني بالطبع دمارا كاملا للعالم، إذ تضرب الأرض عندئذ أعتى موجات التسونامي، بقوة تفوق كل ما نعرف أو حتى نتخيل، ناهيك عن مهرجان من الزلازل والبراكين الحرائق والأعاصير.
أما أثناء الطوفان فلم ينقلب محور الأرض فحسب، بل يبدو ـ علاوة على ذلك ـ أن
سرعة دوران الأرض أيضا تضاعفت عدة مرات (وربما حتى اقترب أيضا مدارها من الشمس قليلا). هذا ما نشأ عنه بالتالي "تسارع" في
الزمن نفسه، ومن ثم قصرت نسبيا الأعمار وصارت
«أايام الإنسان مائة وعشرين سنة» بعد ان كانت تُحسب بالقرون!
وهكذا ختاما جاءت هذه الآية "الغامضة" بعد أن تم كل شيء:
«فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان، لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته. ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت * مدة كل أيام الأرض: زرع وحصاد، وبرد وحر، وصيف وشتاء، ونهار وليل، لا تزال». كأن الله ـ بعد كل هذا الخلل الهائل الذي أصاب
الزمان والمكان، بعد أن تغيّر حتى "
النظام الطبيعي للأشياء" كما أشار الأحبار ـ يختم لنا السرد أخيرا بااتأكيد على
عودة النظام مرة أخرى، أو ربما على طبيعة "
النظام الجديد" الذي نعيشه حاليا، وبكل حال على أن الأرض ـ رغم كل ما حدث ـ "
لا تزال" على ما يرام!
قصارى القول: عن أي انقراض يتحدث الأحباء وعن أي نظام بيئي؟! نحن يا سادتنا ـ إذا صحّت تصوراتنا عن الطوفان ـ نعيش في عالم يختلف تماما وكليا عن عالم ما قبل الطوفان! تلك الحيوانات الأولى بالفلك ـ حيوانات الزمن القديم والعالم القديم ـ لم تكن أبدا كهذه التي نعرفها اليوم! ولا يقتصر الأمر فقط على أنها كانت أطول عمرا مثلا أو أكثر صحة وقوة وبالتالي أكثر قدرة على البقاء، بل نعتقد أن تغيّرا طرأ حنى على المستوى "البيولوجي" نفسه للكائنات جميعا بعد الطوفان، وآية ذلك أن الإنسان نفسه ـ فقط بعد الطوفان ـ صار يأكل اللحم. بوجه عام فإن ما حدث بالطوفان ـ فيما نرى ـ لا يفوق فقط معرفتنا وفهمنا بل يفوق حتى خيالنا! وكل ذلك ـ أكرر ـ ولم ندخل بعد إلى عالم الأبوكريفا والفولكلور والأساطير!**
فيا أخوتنا لنتواضع قليلا، خاصة أمام حدث هائل كالطوفان. نحن لا نعرف الكثير حقا كما نظن، نحن بالعكس نعرف القليل جدا، وعلى الأرجح لا نعرف أي شيء على الإطلاق!
_________________________
* من الطريف أن انقلابا كهذا لمحور الأرض هو السبب وراء تسمية الصعيد أو جنوب مصر عموما "مصر العليا". هناك بالطبع تفسيرات أخرى لهذه التسمية، ربما حتى أفضل وأوجه. هذا التفسير على أي حال يذهب إلى أن الصعيد كان بالأعلى، بالشمال لا بالجنوب، وبالتالي فجنوب مصر هو في الحقيقة مصر العليا بالفعل! بعبارة أخرى: خرائطنا الحالية "مقلوبة"، منذ انقلبت الأرض نفسها آخر مرة ـ وفق حسابات المايا الفلكية ـ قبل 25 ألف سنة!
** يكفي أن نذكر ـ من عالم الأساطير الساحر ـ ما كتبه المؤلف الأشهر زِكاريا ستيشن حول الطوفان بالأساطير السومرية، بعد عقود قضاها في ترجمة الكتابات المسمارية القديمة (نحن بالطبع لا نتفق أبدا مع رؤية ستيشن العامة أو نظريته حول أصل الإنسان، حسب الأساطير السومرية، ولكن فقط نشير إلى هذا الجزء التالي، لعلنا نستشعر كم من الأسرار قد تنطوي عايها حقا قصة الطوفان): إن ما أخذه نوح في الفلك لم يكن "الحيوانات" أصلا، أي بأجسادها هكذا كما نظن، وإنما "شفرتها" الوراثية، "الجينوم" نفسه! بالتالي لم تكن هناك أية مشكلة حقا في اجتماع الحيوانات معا هكذا، أو في المساحة التي تحويهم جميعا! فلك نوح ـ بعبارة أخرى ـ لم يكن "حظيرة" حيوانات كبرى بل كان "مختبرا" علميا بيولوجيا على أعلى المستويات، حيث أعطى "إلإله إنكي" لنوح زوجا من "الجينات"، من الشفرة الوراثية نفسها للحيوانات، وكانت هذه بالتالي هي "البذور" المذكورة بالألواح السومرية، والتي تجددت الخليقة عن طريق استنساخها لاحقا بعد الطوفان!
ومتى حدث حقا هذا وكان البشر ـ أو بالأحرى الآلهة ـ بكل هذا التفوق العلمي الرهيب؟ حسب هذه الأسطورة وحسب ترجمة ستيشن ـ فيما زلت أتذكر ـ حدث الطوفان قبل مائة ألف عام على الأقل!