حرب الأفكار

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,327
مستوى التفاعل
3,199
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus

حرب الأفكار


من
كتاب القداسة في المسيحية بين المتبتلين - القمص صليب حكيم


تزداد حساسية الإنسان بقدر صفائه وشفافيته. ففكر الإنسان الذي تنقى وتقدس بالتأثر بالمثل العليا للطهارة والنقاوة والبتولية، وبالحياة الأسرية المقدسة، وبالاندماج في الحياة الكنسية، وبزيارات النعمة لآباء البرية ومجالستهم الروحية، وبالاستغراق في الفكر الآبائي الروحاني، وانشغال الفكر بالصلاة الدائمة، واعتياد الحواس على معايشة المقدسات سمعًا وبصرًا. وصار هذا الفكر على درجة كبيرة من الصفاء والنقاوة. يصبح صاحبه ذا حساسية مرهفة تجاه العثرات المحيطة به والتي لابد أن يتواجه معها طالما يعايش مجتمع العالم بكل متناقضاته وشروره.

وهذه العثرات لا تنال منه عند مواجهتها في حينه سوى تأثره الوقتي الخاطف نتيجة وقوع بصره أو سمعه عليها. أما ما تخلفه هذه العثرات وتأثراتها لديه فيما بعد فيتمركز في الأفكار التي تهاجمه في وقت مناسب وغير مناسب وفى أي ظروف ومواقف مهما اختلفت أهدافها أو موضوعاتها. وتُكَدر هذه الأفكار صفو الإنسان ومَنْ هُم مثله من أصحاب هذه الحساسية المرهفة نحوها، وتسبب لهم ضيقًا شديدًا خصوصًا عندما تلح عليهم وتلاحقهم ويحسون بالعجز في مقاومتها أو الهروب منها. والأكثر إيلامًا أنه يصاحبهم الإحساس بأنهم نجسون فكرًا وقلبًا وأن المسافة أصبحت بعيدة بينهم وبين إلههم القدوس. وشتان بينهم وبين مُثُل القداسة والبتولية التي يعشقونها ويتغنون بها.

هذه كلها تتمخض عن حرب الأفكار وتكاد توقعهم في اليأس من وضعهم الخاطئ أمام الله والشعور بأنهم غير مستحقين مجرد الوقوف أمامه للصلاة أو ممارسة الصوم أو حتى قراءة الكتاب المقدس. وطبعًا لا يستحقون التقدم للأسرار المقدسة. إذًا الآثار الناجمة عن حرب الأفكار لا يستهان بها على هذا النوع من الذين يسيرون في دروب الروح، خصوصًا في فترة الشباب المبكر والمتأخر.

والعلاج يكمن في التنبه لبعض الأمور وأهمها:

1 - إدراك أن استمرار ورود هذه الأفكار يشير إلى أن الميول الجسدية لازالت دفينة في أعماق النفس ولها موضع خفي في القلب، واستمرار كبتها لا يمنع من زوالها. فالأمر يحتاج إلى جهاد مستمر من أجل تنقية النفس منها ولو إلى النَفَس الأخير كما يعلمنا الكتاب "لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية" (عب12: 4) خصوصا أن شهوة الجسد أكثر شهوة التصاقًا بالإنسان، وقد تلازمه حتى سنى الشيخوخة لأنها قائمة في جسده.

2 - إن كانت حرب الأفكار الشريرة مجالًا للجهاد الروحي. والجهاد قد يستمر مع الإنسان إلى آخر لحظات حياته مثلما يذكر بستان الرهبان عن حرب إبليس مع كثير من القديسين. إلا أنه يجب عدم اليأس أو انقطاع الرجاء في فكرٍ طاهر. لأنه يمكن أن يأتي وقت يرفع الله عن الإنسان حرب الأفكار وذلك بمداومة الصلاة والطلبة من أجلها حسب وعد المسيح: "إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمي. اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملًا" (يو16: 24).

3 - إن الجهاد الروحي يعطى طعمًا لحياة السائرين في درب الروح ويتلذذون به بالرغم من معاناة أتعابه، وذلك لما يتخلله من انتصارات متوالية بين الحين والآخر يتذوقون فيها جمال عمل قوة النعمة الإلهية في حياتهم.

4 - إن توارد هذه الأفكار واستمرار إلحاحها هو نتيجة عادة فكرية تملكت على الشخص وهى ثمرة التكوين النفسي والبيئي والتربوي. فالجانب اللاإرادي أصبح متوفرًا في هذه الحرب الفكرية. والله يعلم بهذا كما يعلم أنها موضوع جهادنا. وينتظر منا أن نستغل هذه الفرصة أو هذه التجربة لكي نجاهد وننتصر انتظارًا لحسن المجازاة.

5 - إن عمل إبليس في هذه الحرب الفكرية هو أنه قد يشجع على يقظتها بمثيرات من الخارج. وقد يعيد تكرارها على الذهن من الداخل مستغلًا العواطف الدفينة نحوها وبعض العوامل الأخرى التي ذكرناها والتي تساعد على هجوم الأفكار على الخاطر. ولكي لا نخاف من حرب الأفكار يجب أن نعرف أنها آخر ما في جعبة إبليس من سهام يمكن أن يوجهها للذين عقدوا العزم على حياة الطهارة وعدم تدنيس أنفسهم بأي فعل جسدي.

6 - يحسن مواجهة الأفكار الشريرة باللامبالاة وعدم الاكتراث. فهذا يجعلها تعبر بهدوء ويستريح الفكر منها. لأن إهمالها وعدم الاهتمام بها أفضل بكثير من العناد معها لأن رد فعلها عندئذ العناد أيضا والإلحاح. وقد لا يسمح الوقت باستمرار المواجهة حيث تكون هناك حاجة للانتهاء من عمل فكرى في وقت معين مثل المذاكرة أو القراءة العادية أو الصلاة..

7 - إن ورود هذه الأفكار الوقتي على الخاطر ليس خطية في حد ذاته لأنه بمثابة مرور الهواء الفاسد الغير مرغوب فيه والذي يجاهد الإنسان للهروب من جوه الخانق. ولكن ما يُحَوِّل ورود هذه الأفكار إلى خطية هو عدم مقاومتها والاستسلام لها والتلذذ بها.

8 - الحل الأمثل لمشكلة الأفكار هو وسيلتان:

الأولى: انشغال الفكر الدائم بأمور واهتمامات كثيرة بحيث لا يترك الإنسان نفسه في فراغ طالما كان يقظًا وواعيًا لنفسه، أيًا كانت الاهتمامات طالما أنها بعيدة عن الأمور الجنسية أو مشاعر البغضة والعداوة نحو الآخرين.

الثانية: الامتلاء الروحي الذي يجعل الإنسان دائمًا حارًا بالروح قادرًا على أن يسبى كل فكر إلى طاعة المسيح (2كو10: 5) أي يخرج الفكر من مجاله ويدخله في دائرة وصية المسيح فيقتل فكر الخطية الشارد بسيف كلمة الله الحاضرة في الذهن والقلب.
 

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,327
مستوى التفاعل
3,199
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus
الصمود أمام السقوط:



إذا استمالت الأفكار الشريرة شخصًا في غفلة منه وقادته للسقوط في الخطية وتنبه لِتوِّهِ لمرارة هذا السقوط وحزن بشدة على سقوطه، إذْ لم يكن يتصور أن يسقط هكذا يومًا ما فيُغْضِب الله ويُحزِن قلب المسيح. فندم على خطيته وقدَّم توبة واعتذارًا لله طالبًا رحمته ومغفرته. وأكمل طريق التوبة بأن جاء إلى أب اعترافه مُقِرَّا بخطيته. ثم تقدم بمحبة وخوف كبيريْن وبشكرٍ من الأعماق وتناول من الأسرار المقدسة، عازمًا من كل قلبه ألاَّ يعود لهذه الخطية مرة أخرى، وكأنها مأساة سقطت ككارثة في حياته وأزال الله غُمَّتها عنه. فيكون بذلك قد انتهى الأمر بالنسبة لله الرحوم والغافر الخطايا في استحقاقات ذبيحة ابنه. وبالنسبة للإنسان أيضًا الذي نال المغفرة وأخذ درسًا قاسياُ في مرارة الخطية. على أن يبدأ حياة جديدة مكللة بالنصرة واليقظة الدائمة التي ليس بعدها سقوط.

أما إذا استغل إبليس هذه السقطة الأولى لزرع حب الخطية في كيان الإنسان ونقطة بداية لطريق الخطية في حياته. فليس أمام هذا الإنسان سوى التنبه لأسلوب عدو الخير وإلى مكر الجسد فيقاوم ميول الجسد ويهرب من مكان الخطية والأشخاص سبب الخطية، ويستغيث بالمعونة الإلهية لكي تعينه على عدم الرجوع للخطية ويسرع إلى الاعتراف بخطيته بتوبة وندامة أولًا بأول. ولكن ماذا لو انغلب من شهوته فسقط مرة أخرى وماذا لو تكرر السقوط فسقط مرات؟

إن تكرار السقوط دليل على أن الخطية أصبحت محببة إلى النفس وبدأ يتغلغل التلذذ بها في إحساس الإنسان. ولذلك ربما الاتجاه إلى زرع كراهية الجسد الغريب يساعد على التحول بمساندة الله عن الاستمرار في الخطية. ويمكن أن يتم هذا باللجوء إلى المقارنة التي عقدها بولس الرسول بين الجسد والروح مبينًا نقائص الجسد في أنه يزرع أو ينشأ في فساد وفى هوان وفى ضعف وفى طبيعة الجسد الحيواني. فللهروب من اشتهاء جسدٍ ما فليضع الإنسان هذه النقائص أمامه لا ليكره الجسد كخليقة الله بل ليكره اشتهاءه لأنه خطية.

وهذا ما يلجأ إليه المحللون النفسانيون فيما يسمونه بالعامل المنفِّر ويستخدمونه في علاج المتعلقين ببعض المكيفات الضارة كالسجاير أو الخمور أو المخدرات حيث يوضحون كل العوامل والحقائق المنفرة وينصحون المريض بأن يضعها أمام فكره أو في تخيله لكي يكره هذه المكيفات وينفر منها.

لذلك ليضع وليتخيل الإنسان المغلوب من اشتهاء جسدٍ ما كل الأمور المنفرة من هذا الجسد وتجعله يشمئز منه فلا يشتهيه.

وقد يتألم البعض ممن يجاهدون في حياة الطهارة لسقوطهم المتكرر وذلك بالرغم من مواظبتهم على ممارساتهم الروحية. ولكن على هؤلاء أن يعوا أن ذلك يرجع إلى أن ممارساتهم هذه أصبحت ممارسات جسدية يغلب عليها الطابع الحسي المحض، أو كالعادة الروحية التي تُمارَس بدون تفكير أو تأمل أو تذوق لِما تحمله من معانٍ وعطايا لازمة لتنقية النفس وتطهيرها، أو لعدم الشعور بحقيقة العطايا غير المنظورة في الممارسات الحسية المنظورة، من تناول واعتراف وسجود وصوم بل والصلاة أيضًا وخلافه.

فمثلًا صلوات المزامير من المعروف أنها تحرق الأفكار الشريرة وتطفئ شهوة الجسد. ولكنها لا تُتمم فاعليتها هذه إلا عندما يكون الصراخ بها من الأعماق. كذلك رسم علامة الصليب لها نفس القدرة ولكن عندما يتم رسمها بحرارة وبإيمان وبكراهية للخطية ورغبة صادقة للهروب من الأفكار وهكذا في الصوم والسجود..إلخ. عندئذ نجد الاستجابة فورية. فأسلحة الغلبة موجودة ولكن بشرط إجادة استخدامها.

ولكن إذا كان هذا البعض لا يجيدون استخدام هذه الأسلحة وفى نفس الوقت متمسكون بطهارتهم - فليس أمامهم سوى الصمود أمام السقطات وعدم اليأس من التوبة أو المغفرة مرددين قول ميخا النبي "لا تشمتي بي يا عدوتي (التي هي الخطية) إذا سقطت أقوم" (ميخا7: 8) وقول سليمان الحكيم "الصديق يسقط سبع مرات ويقوم" (أم24: 16).

ومع الإرادة العنيدة المتمسكة برجاء الخلاص والمستعينة بنعمة المسيح الساندة ومحاولة بذل جهد لمعالجة الضعف الروحي بوسائط النعمة. لابد أن تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها" (مل4: 2) ويتمتع الإنسان بفجرٍ جديد مملوءٍ بالحرية الروحية وفك قيود عبودية الخطية. حينئذ لا يَسَع الإنسان إلا أن يلهج بالتسبيح مع داود النبي قائلًا "حللتَ قيودي فلك أذبح ذبيحة التسبيح" (مز115: 7، 8).

ويجب ملاحظة أنه يمكن أن يكون الإنسان خاطئًا ولكنه ينمو في الروح وذلك في حالة جهاده ضد الخطية. بحيث يلاحظ أنها تَقِلُّ في حياته بالتدريج. ولاشك أنه بالمثابرة على الجهاد يأتي اليوم الذي يتخلص منها كليةً.
 
أعلى